منذ إطلاق فصائل “الجيش الوطني السوري” المدعومة من تركيا عمليتها العسكرية المُسمّاة “فجر الحرية” في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 في المناطق الشمالية والشمالية الشرقية من سوريا، تشهد مناطق عفرين والشهباء شمال حلب موجة جديدة من الانتهاكات الجسيمة بحق المدنيين الكُرد.
وثقت رابطة تآزر للضحايا اعتقال 128 شخصاً، بينهم 20 امرأة، معظمهم/ن من العائدين/ات إلى مناطقهم في عفرين أو العالقين في “مناطق الشهباء” شمالي حلب، بالإضافة إلى حالات تعذيب، واعتداءات جنسية. وعلى الرغم من الإفراج عن 52 شخصاً من المحتجزين/ات بعد تعذيب جسدي ونفسي، فإن مصير 76 شخصاً لا يزال مجهولاً حتى الآن.
كما تمّ فرض مبالغ مالية ضخمة على المدنيين مقابل السماح لهم بالعودة إلى منازلهم في عفرين، واعتُقل من رفضوا أو لم يستطيعوا الدفع، في حين مُنعت عائلات أخرى من حق المطالبة بمنازلها وأملاكها فقط لأن الفصيل الذي يستولي عليها يرفض إعادة الحقوق لأصحابها.
أدت الأعمال القتالية الناجمة عن هجمات فصائل “الجيش الوطني” منذ 30 تشرين الثاني/نوفمبر في المناطق الشمالية والشمالية الشرقية من سوريا، إلى تهجير قسري لأكثر من 120 ألف شخص، معظمهم من كُرد عفرين، في تكرار لمأساتهم عام 2018 نتيجة عملية “غصن الزيتون” التركية.
في هذا الوقت، تستمر هجمات “الجيش الوطني السوري” بغطاء تركي على مدينة كوباني الكُردية، التي تحمل رمزية خاصة في معركة القضاء على “داعش”، وسط تزايد مخاوف الشعب الكُردي وغيره من شعوب وأقليات مناطق شمال شرق سوريا، التي تحتضن أكثر من مليون نازح داخلي، بينهم عشرات الآلاف المهجرين من ضحايا جرائم وانتهاكات الفصائل ذاتها.
ويجري ذلك في لحظات تاريخية تنفّس فيها ملايين السوريين/ات الصعداء مع سقوط نظام الأسد، ودعت فيها الأمم المتحدة جميع الأطراف المسلحة إلى ضبط النفس ووقف التصعيد، حيث أكد المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، غير بيدرسون، على أهمية الحفاظ على القانون والنظام، حماية المدنيين، واحترام المؤسسات العامة. كما شدّد على ضرورة إعطاء الأولوية للحوار، داعياً إلى احترام القانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان كخطوة أساسية لإعادة بناء المجتمع السوري.
خلفية:
في سياق سقوط نظام بشار الأسد بعد عملية “ردع العدوان” التي أطلقتها مجموعات مسلحة بقيادة “هيئة تحرير الشام”، منذ 27 تشرين الثاني/نوفمبر، استغلت فصائل “الجيش الوطني السوري” المدعومة من تركيا حالة الفراغ السياسي والأمني لإطلاق عملية “فجر الحرية”.
تهدف العملية، وفق تصريحات قيادات هذه الفصائل، إلى “تحرير” مناطق شمال حلب، إلا أن نتائجها على الأرض تُظهر استمراراً لسياسات التهجير والانتهاكات الممنهجة بحق المدنيين الكُرد، التي بدأت منذ سيطرة تلك الفصائل على عفرين في 2018 نتيجة عملية “غصن الزيتون” التركية.
منذ 30 نوفمبر/تشرين الثاني، سيطرت هذه الفصائل على مناطق تل رفعت والشهباء شمالي حلب، ثم منبج، التي كانت رمزاً للتعايش بين الكُرد والعرب، وسط تصاعد انتهاكات حقوق الإنسان، من إعدامات ميدانية، اعتقالات تعسفية، تعذيب، ونهب ممتلكات.
يقود قوات الجيش الوطني التي أطلقت العملية المُسمّاة “فجر الحرية” مجرمين وفصائل مدرجة سابقاً في قوائم العقوبات الصادرة عن “وزارة الخزانة الأمريكية” بسبب تورطها في انتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك القتل والاختفاء القسري، ونهب الممتلكات، أبرزها فرقة الحمزة (الحمزات) وقائدها “سيف بولاد أبو بكر”، وفرقة السلطان سليمان شاه (العمشات) وقائدها “محمد الجاسم” المعروف باسم “أبو عمشة”، وقد ظهرا في مقاطع مصورة داخل مدينة منبج في اليوم الأول من الهجوم عليها، بالإضافة إلى تجمع “أحرار الشرقية” وقائدها “أحمد إحسان فياض الهايس” المعروف باسم “أبو حاتم شقرا” الذي أعدمت مجموعته السياسية الكُردية “هفرين خلف” وسائقها ومرافقيها خلال الأيام الأولى من عملية “نبع السلام” التركية.
الاعتقالات الموسعة واستهداف المدنيين الكُرد:
وثقت رابطة “تآزر” اعتقال 128 شخصاً (بينهم 20 امرأة) منذ مطلع كانون الأول/ديسمبر، على يد فصائل “الجيش الوطني السوري” في مناطق عفرين وريفها، بما في ذلك “منطقة الشهباء” شمالي حلب. وأكدت “تآزر” الإفراج عن 52 شخصاً بعد تعذيب جسدي ونفسي، لا يزال مصير 76 شخصاً محتجزاً طيّ الكتمان.
أكثر 50% من حالات الاعتقال وقعت في قرى “منطقة الشهباء” شمالي حلب -بما في ذلك قرى دير جمال وأقيبة غيرها- التي كانت تُعتبر من خطوط التماس بين مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وفصائل “الجيش الوطني السوري”، حيث تمّ توثيق اعتقال ما لا يقل عن 65 شخصاً، بينهم نساء، وتعرضوا لتعذيب جسدي ونفسي تحت ذريعة “التعامل مع قوات سوريا الديمقراطية”. أُفرج عن البعض منهم -بعد أيام من احتجازهم- لقاء دفع فدية مالية، بينما لا يزال مصير الآخرين مجهولاً.
وفي قرية “هيجكة” التابعة لناحية “شيه/الشيخ حديد” غربي عفرين، فرضت فرقة السلطان سليمان شاه (العمشات) مبالغ مالية وصلت إلى 10 آلاف دولار أمريكي على العائلات العائدة إلى منازلها. عجزت بعض العائلات عن الدفع، مما أدى إلى اعتقال أفرادها، بينما أُجبرت أخرى على الفرار إلى أحياء “الشيخ مقصود” و”الأشرفية” في حلب، بعد عجزها عن الدفع.
كما تحققت “تآزر” من مقتل أربع نساء في قرى “منطقة الشهباء” شمالي حلب، بعد تعرضهن للاغتصاب، عقب سيطرة فصائل “الجيش الوطني” على المنطقة، بالإضافة إلى وفاة مُسنّ كُردي بعد اعتقاله من قبل تلك الفصائل أثناء عودته إلى مسقط رأسه في ريف عفرين، وقد تمّ إبلاغ عائلته بوفاته خلال الاستجواب.
فرار جماعي من سجن الراعي:
تمكّن أكثر من 300 محتجز/ة، بينهم نساء حوامل، من الفرار من “سجن الشرطة العسكرية” في الراعي شمال شرق حلب، بعد تنفيذ استعصاء داخلي وكسر أقفال الزنازين. الغالبية العظمى من المُفرج عنهم/ن هم من كُرد عفرين الذين/اللواتي تعرضوا لانتهاكات مروعة على يد فصائل “الجيش الوطني السوري”.
هذا الاستعصاء جاء نتيجة الإحباط من قرار العفو العام الصادر عن “الحكومة السورية المؤقتة” التابعة للائتلاف الوطني السوري “المُعارض”، حيث لم يشمل العفو معظم المحتجزين/ات الكُرد، الذين استمر احتجازهم دون محاكمة أو تهمة واضحة. ردّاً على ذلك، أضرب المئات عن الطعام ونفذوا العصيان الذي انتهى بالفرار الجماعي.
ورغم نجاح عملية الفرار، إلا أن قوات “الجيش الوطني” تُلاحق السجناء والسجينات الفارين/ات، مما يزيد من المخاطر التي يواجهونها أثناء محاولتهم/ن البحث عن ملاذ آمن. في الوقت ذاته، لا يزال عشرات المحتجزين/ات داخل السجن الذي يُعد رمزاً للتعذيب والانتهاكات.
اكتسب “سجن الراعي” سمعته السيئة نتيجة ممارسات التعذيب والانتهاكات الممنهجة التي تُرتكب داخله، حيث شهد مقتل العديد من المحتجزين تحت التعذيب، في مشهد يُعيد إلى الأذهان أساليب وأدوات التعذيب التي كانت تُمارَس في مراكز الاحتجاز التابعة للأجهزة الأمنية السورية. شهادات عديدة من الناجين/ات أكدت أن هذا السجن يمثل أحد أبرز الأمثلة على غياب القانون واستمرار المعاناة الإنسانية في المناطق الخاضعة لسيطرة الفصائل المدعومة من تركيا.
بموجب قرار العفو العام، أُفرج عن عشرات المحتجزين/ات من سجون “الجيش الوطني” في مناطق مختلفة، بما في ذلك سجن معراته، سجن راجو، وسجن أعزاز. ومع ذلك، يثار تساؤل حول نزاهة تطبيق القرار، بسبب استثنائه العديد من المعتقلين الكُرد واستمرار ممارسات الاحتجاز التعسفي، فضلاً عن غياب الشفافية بشأن المعايير المتبعة للإفراج.
التهجير يفاقم الأزمة الإنسانية في شمال شرق سوريا:
مع تصاعد العمليات العسكرية التي تقودها فصائل “الجيش الوطني السوري المدعومة من تركيا في المناطق الشمالية والشمالية الشرقية من سوريا، شهدت مناطق الشهباء شمالي حلب موجة جديدة من التهجير الجماعي، طالت أكثر من 120 ألف شخص، معظمهم من كُرد عفرين، في تكرار لمأساتهم عام 2018 أثناء عملية “غصن الزيتون” التركية.
وتلقت “تآزر” تقارير حول انتهاكات متعددة واجهها النازحون على يد فصائل “الجيش الوطني” خلال رحلتهم من تل رفعت ومنطقة الشهباء شمالي حلب إلى شمال شرق سوريا، تضمنت استهداف قوافل النازحين وإهانتهم، اعتقالات تعسفية، وابتزاز مالي.
بحسب السلطات المحلية، فأن أكثر من 90 ألف شخص نزحوا إلى مناطق شمال شرق سوريا، حيث تمّ استقبالهم مؤقتاً في مدارس وملاعب رياضية في مدينتي الطبقة والرقة. لاحقاً، وُزع الآلاف على مناطق الجزيرة وكوباني. لكن الأوضاع الإنسانية في مراكز الإيواء ما زالت كارثية، حيث يعاني النازحون من نقص حاد في المأوى، الغذاء، المياه، والخدمات الطبية، وسط جهود محدودة من المنظمات المحلية والدولية.
وفقاً لتقرير صادر عن منظمة أطباء بلا حدود، بتاريخ 12 كانون الأول/ديسمبر، فأن النازحين يعيشون أوضاعاً مأساوية في ظل انخفاض درجات الحرارة إلى ما دون الصفر، حيث تفتقر مراكز الإيواء إلى التدفئة والبطانيات، كما أنَّ المرافق غير مهيأة لإيواء الناس إذ تفتقر إلى المراحيض ومياه الشرب والغذاء. ويعود هذا النقص إلى عدم توفر الوقت الكافي أو الموارد اللازمة لدى السلطات للتحضير بشكل ملائم. وسرعان ما أصبحت الخدمات الطبية المتاحة في بعض المناطق التي تستقبل النازحين مثقلة بتدفق الناس.
في ظل استمرار الصراع والعمليات العسكرية، لا يزال أكثر من 10,000 شخص -بينهم آلاف الكُرد- باقين و/أو عالقين في قرى وبلدات “منطقة الشهباء” شمالي حلب التي أصبحت تحت سيطرة “فصائل الجيش الوطني”، وقد وُثقت انتهاكات جسيمة بحق هؤلاء السكان، شملت القتل، الاعتقالات التعسفية، التعذيب؛ بما في ذلك العنف الجنسي، إضافةً إلى النهب والاستيلاء على الممتلكات.
المسؤولية القانونية:
وفقاً للقانون الدولي الإنساني، تشكل الانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها فصائل “الجيش الوطني السوري” في المناطق الشمالية والشمالية الشرقية من سوريا، بدعم مباشر من تركيا، انتهاكات صريحة لاتفاقيات جنيف لعام 1949. تندرج الاعتقالات التعسفية والتعذيب ضمن الانتهاكات المحظورة بموجب المادة الثالثة المشتركة من اتفاقيات جنيف، التي تلزم جميع الأطراف في النزاعات المسلحة غير الدولية باحترام وحماية الأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية، وتحظر بشكل قاطع ممارسة التعذيب والمعاملة القاسية أو اللاإنسانية. بالإضافة إلى ذلك، يُعد التهجير القسري للسكان المدنيين جريمة حرب بموجب وفقاً لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي يحظر النقل القسري للسكان من أراضيهم لأسباب لا تبررها الضرورات العسكرية.
وتتحمل تركيا، باعتبارها القوة الداعمة والمُشرفة على فصائل “الجيش الوطني السوري” مسؤولية قانونية عن هذه الانتهاكات، ما يُلزمها بضمان امتثال الفصائل المسلحة للقوانين الدولية، ووقف الانتهاكات، ومحاسبة مرتكبيها. كما أن الفشل في اتخاذ إجراءات فعّالة لمنع هذه الجرائم أو معاقبة مرتكبيها يُعد تواطؤاً ضمنياً، مما يعرضها للمساءلة أمام الهيئات والمحاكم الدولية.
التوصيات:
انضمت “تآزر” إلى 129 منظمة سورية في بيان مشترك صدر بتاريخ 5 كانون الأول/ديسمبر، يُطالب مجلس الأمن بحماية المدنيين والتدخل الفوري لوقف التصعيد العسكري في شمال سوريا وتعزيز الاستجابة الإنسانية. تحذّر المنظمات السورية من أنّ هذا التصعيد العسكري يشكّل نقطة تحول خطيرة في الصراع السوري، ويثير مخاوف حقيقية لدى العديد من المجتمعات السورية، لا سيما الأقليات الدينية والإثنية. لذا فأنها توصي بما يلي:
مجلس الأمن الدولي:
إصدار قرار عاجل بفرض وقف إطلاق النار والتصعيد العسكري في جميع مناطق الصراع في سوريا.
اتخاذ تدابير عملية لضمان حماية المدنيين ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات بحقهم، وتعزيز وصول المساعدات الإنسانية.
وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الدولية:
إطلاق استجابة طارئة لتلبية الاحتياجات الأساسية لعشرات الآلاف من النازحين/ات، بما في ذلك المأوى، الغذاء، الماء، والرعاية الطبية.
ضمان وصول آمن للمساعدات الإنسانية إلى جميع المناطق المتضررة دون تمييز.
دعم مبادرات لتعزيز الأمن الغذائي وتوفير احتياجات طويلة الأمد للنازحين/ات.
أطراف الصراع في سوريا:
الالتزام بالقانون الإنساني الدولي وحماية المدنيين من الاستهداف المباشر وغير المباشر.
وقف جميع العمليات العسكرية التي تؤدي إلى التهجير القسري والانتهاكات بحق المدنيين.
السماح للمنظمات المستقلة بالوصول إلى المناطق المتضررة لتوثيق الانتهاكات وتقييم الاحتياجات.
لجنة التحقيق الدولية المستقلة والآلية الدولية المحايدة والمستقلة التابعة للأمم المتحدة:
إجراء تحقيق شامل وشفاف في الجرائم المرتكبة في شمال سوريا خلال التصعيد العسكري الأخير، ونشر تقرير حولها.
جمع وتحليل الأدلة المتعلقة بالجرائم المرتكبة في شمال سوريا، والتنسيق مع الجهات القضائية الدولية لضمان محاسبة المسؤولين عن الجرائم.
وحدات جرائم الحرب في الدول التي تسمح قوانينها بمحاكمات وفقاً لمبدأ الولاية القضائية العالمية:
توسيع التحقيقات الهيكلية حول الجرائم المرتكبة في سوريا، بحيث تشمل تلك الواقعة في عموم مناطق الشمال السوري من قبل جميع أطراف النزاع.