بيوار إبراهيم .. كاتبة كوردية من سوريا
أنا الكوردية السورية التي سابقت الريح، واليوم تواجهه بكل جبروته، رياح لا غربية ولا جنوبية، واما الرياح الشمالية فدمرت ما كان مبنياً من سلام وسكينة وطمأنينة رغم انحسار الحرية المرجوة، واليوم بات الأمل مرهونا بهبوب رياح شرقية لعل وعسى تبني القليل مما هدم وتعيد البعض ممن هاجروا. عنقي مرهون لرصاص الأيام التي لم تلد بعد بالرغم من مرورها وباتت ماضياً.
الكلمة باتت علقماً في رأس قلمي الذي يصارع معي الهروب والموت والجوع والضياع في وطن بات يشبه وطنا أو كأنه كان وطن!، وطن تعشش فيه الحدآن والتي بدورها باتت تضرم النيران بالأخضر واليابس وكأنها تمارس سياسة الأرض المحروقة بغل وطغيان. كلما ركضت وراء ما كان وطن واصرخ أرجوك انتظرني..!، يلهث هارباً مني ومن نفسه ومن الأرض والسماء، وتصرخ يداي مقيدتين لا استطيع تحرير نفسي فكيف لي أن أحملك ولك أحمال لا قدرة لي عليها؟.
أنا الكوردية التي كانت وما زالت وبإذن الله ستكون كما خطّ لها والدها الخُطا، ومشت على الدرب الذي لا يساوم عليه مهما بهظ ثمنه وغلا، درب الكوردايتي الذي رسخ الحقيقة من الزيف درب نهج البارزاني الخالد الذي اثبت في هذه المراحل الدامية والمتذبذبة أنه الحامي الوحيد والحافظ الوحيد للقومية الكوردية، وما تبقى مجرد تجار يبيعون ويشترون بالسلعة التي عندهم والتي في ظاهرها وطن وفي باطنها غنائم.
أنا الكوردية التي تصارع الباطل لوجه الحق، لأنه لا بد من منفذ أو باب ما يخرج منه الحق والحقائق. لم أزيف التاريخ وقلت الحق الذي لا بد له أن يقال في كل مرحلة وتاريخ. الحقيقة التي أكدت أنه لولا جبال ومناطق بارزان ورجالاتها الشامخين وتحديداً الزعيم مسعود بارزاني ما كان لإقليم كوردستان ان يكون وما كان للكيان الكوردي أي وجود.
في ماض قريب جاءتني حدآن منتوفي الريش وأمطروني بزبد ألسنتهم أنني أساند في رواياتي بقيام كيان كوردي مستقل وعارضوا وناهضوا الفكرة التي هي بالنسبة لي حلم مقدس. كيف لا أساند درباً ونهجاً يحاول حماية كينونتي وخصوصيتي وجذوري وثقافتي التي بها أختلف عن الآخرين، بها أعيش وأتنفس واكتب وأضحك وأبكي؟!، عائلتي كما الآلاف ضحوا بالكثير من أجل الوصول الى هذا الحلم، وعلى العكس فإن الكثيرين أيضاً ضحوا بالوطن وباعوه في مزاد رخيص جداً بلا مقابل وبلا شرط أو قيد. أحياناً أهذي مع شبح ما كان وطن وأتكلم معه وكأنه فرد من عائلتي!، يا لقلبك كيف تتحمل كل هذه الخيانات من الجهات التي اعتبرتها جهاتك ومحمياتك وقلاعك؟!،
أنا لم أخنك يا وطن!، لم اغمس خبزي اليابس في بحار دمك، لم أشارك في أعراس الغدر بك، لم أساهم في تسليم مفاتيح مدنك وقراك إلى مصاصي دمك الثائر لم اقترب من السوق الأسود الذي باعوك فيه وقبضوا أثماناً أبخس بكثير من دناءتهم، أثمان لا يستطيعون حتى أن يشتروا بها أثواب المراحل الزئبقية كأثواب البعث سابقاً وأثواب الأردو حاضراً وأثواب اللطم مستقبلاً، وبالتأكيد لم أنس أثواب غرب الكون لأنهم يمشون أنصاف عرايا ولا يحتاجون لأثواب متغيرة، وهذا الشيء بالتحديد ما ليس للمتذبذبين طاقة بها لأنهم بمجرد لبسهم لهكذا أثواب يصبحون عراة حفاة في مهب العواصف.
لن أقول أن بقائي في الوطن تضحية ولجوئي لأكفان الغربة خلاص. عندما تكون الإختيارات الصحيحة نابعة من عقل أصح، حينها لا مكان للجدل والكلام فيه لأن القرار الأوحد هو سيد الموقف وإصراري على البقاء هنا ورفض الهجرة ساهم بشكل أو بآخر في بقائي، وأخوتي عاطلين عن العمل لأننا رفضنا أن نحمل أحجار البغض والكراهية في أطراف أثوابنا هناك على الحدود المقدسة بين الأخوة لنمطر البيشمركة الأبطال بها، رفضنا الإرتزاق كما الكثيرين ممن يلبسون ويخلعون الأثواب التي ذكرتها آنفاً كل ثوب حسب مرحلته. اليوم لبسوا ثوباً أكبر بكثير من قزميتهم المقزمة وباتوا كما الطبالين الذين يطوفون البيوت ليلاً ويطرقون أبوابها في كل الشهور إلا شهر رمضان المبارك.
أنا الكوردية التي بنت في نفسها عوالم من جبال وأنهار وبحار. عوالم لا تحتاج الى الملاجئ في صعاب المراحل والأيام، أحيي حكاياتنا وأضيء بها ليالينا في هذه الحرب العمياء حتى لا تضيع مع الوقت، أحمل جمار الصبر بيدي حتى لا ينطفئ أمامي شغف المضي بالدرب الطويل. يتهكمون علي لأنني من أنصار الأفكار التقليدية والحياة العشائرية والعادات والتقاليد والمبادئ، وأن النهج الذي أسلك خطاه هو نهج كلاسيكي وهو السبب في عدم تقدم المجتمع الكوردي. بالتأكيد لي الشرف أن أكون إنسانة كلاسيكية تسير على درب نهج كلاسيكي حسب قولهم لي، ولا يشرفني الإنضمام الى قشور أيديولوجيا بعيدة عن معتقداتنا وعاداتنا وتقاليدنا وتحديداً الأمور التي تخص المرأة. أقول قشور أيديولوجيا وتحديداً تلك التي تنادي بحرية المرأة بكافة مجالات الحياة وترفض الحياة الأسرية وتسترجل أكثر من الرجل نفسه وتصرخ أنها شرف نفسها ولا علاقة لعائلتها بها.
قبل سنوات مضت في مدينة هولير التقيت صدفة بسيدات أنيقات تعتبرن أنفسهن متحررات. غرور إحداهن أدى بها الى الصراخ بالعراقي وليس بالكوردي” هولير وايد جافة” ونعتت الحكومة بالأميين وبرؤساء العشائر. كان أحد المسؤولين جالساً سألته ما قصدها بجفاف هولير؟، ضحك ضحكاً خرافياً، ومن خرافة ضحكه فهمت المغزى من الجفاف، وكانت تلك الجلسة من أهم ما نفض الرماد عن مخيلتي في كتابتي لروايتي الأولى. كان هذا ماضياً بعيداً أما في ماضٍ أقرب تبين أن حدسي كان صائباً، وأن تلك السيدة العطشى للماء لم تكن سوى مساهمة بشكل أو بآخر في تسليم مفاتيح مدينة ضحى الآلاف بأرواحهم من أجلها.
المرأة الحرة لا تتعرى من مبادئ وطنها وشرفه من أجل أوهام ترسخت في ذهنيتها عبر عمليات غسل دماغ لا أكثر ولا أقل، المرأة الحرة تحمي بيتها ومجتمعها من الإنهيار لأن المرأة هي كل المجتمع وليس نصفه كما يروجون له. المرأة الحرة لا تطالب بالحرية كي تخون مجتمعها وتتجبر على محيطها وتتبنى أيديولوجيات أبعد ما تكون عن مجتمعها كما الزواج المدني والمساكنة، أيديولوجيات لا تشمل شيئاً بشموليتها سوى هدم البنية التحتية للمجتمع الذي تنخر فيه أينما حل وسكن. الحرية مسؤولية أولاً وأخيراً، وهنا بات الكثيرين ممن ينادون بالحرية مجرد أشباه مسؤولين ومجرد صور ورقية براقة بمجرد هبوب نسمة هواء ترتفع تلك الصور في الهواء وتمضي إلى حيث لا تدري.
أخبرني والدي أنه عند ولادتنا وبعد آذانه في أسماعنا كان يهمس لنا أن نحافظ على أيماننا بالدين والقومية وأن لا نتاجر بهما مهما جابهنا المصاعب والأهوال، وقبل رحيله بأيام ذكرني بذلك مجدداً وقال” الحرب موت للأحياء وهذه الحرب التي غزتنا كأنها ستدوم طويلاً وربما تصبح حرب كونية. إياكم ومن ثم إياكم أن تتاجروا بالدين وبالقومية.
أنا الكوردية التي تركب ظهر الحزن والجوع والموت والعصيان ترفض المضي مع رياح الشك وترك الصعب مهما كان صعباً، قالوا لي بسخرية، لماذا تدافعين عن حزب وأنتِ لست متحزبة به ولا تنتفعين منه مادياً؟، هكذا هي الحسابات إذاً؟، إما أن ننتفع أو نبقى بعيدين عن الخاسرين في المعارك. الحزب الذي أدافع عنه له مرجعية مقدسة وثابتة بقامة الرئيس مسعود بارزاني الذي منع إراقة الدم الكوردي بيد الكوردي هنا، وهي المرجعية الوحيدة التي تحرص على حماية الدم الكوردي من الهدر فوق أراضي لا نملك فيها حفنة تراب، أراضي لن تعترف بشهادة مقاتل كوردي استشهد عليها وسيعتبره دخيلاً وعدواً على إقتطاع أراضيه، وسيكون ذلك المقاتل منبوذاً من كل الأطراف المتناحرة عاجلاً أم آجلاً. بعض الحركات السياسية الكوردية في سوريا أجادت الاصطياد في الماء العكر لكنها لم ولا أعتقد أنها ستشارك في الاصطياد ببحار الدم السوري عامة والدم الكوردي خاصة، هذا الدم السوري الذي تعكر وتلوث وبات حاويات لنفايات كل من أراد التخلص من قذاراته وجرائمه.
عندما أوقفوا الشاعر الإسباني لوركا على إحدى الحواجز أثناء الحرب الأهلية سألوه مع من أنت؟، رد بثقة أنا مع الخاسر. لأنه كان يدرك أن الخاسر في معارك قضايا الوطن يبقى أشرف الأطراف وأبيضهم يداً. كل الحروب تتشابه لكن ما يجري في سوريا لا يشبه أي شيء، لذا يمكنني إقتباس ما قاله لوركا ( أنا مع الخاسر). لأن الخاسر عندنا بقي على سجيته ونبله ومبادئه، والأهم من كل هذا وذاك حافظ بكل ما يملكه من قوة على إنسانيته، وهذا ما جعلني أساند الحق والحقيقة التي لا بد أن ينطق بها لأنها معضلة وما أصعبها من معضلة، اولئك الخاسرين الذين رفضوا زج أبناء وطنهم في الجبهات الأولى من النار من غير قيد أو شرط، والشرط الأهم والذي لا يساوم هو أن يحاربوا من أجل أراضٍ كوردية ولا شأن لهم بأراض الآخرين. الخاسرين الذين رفضوا هدم المدن فوق الأرض ورفضوا حفر الأوكار تحتها وأرادوا إعمارها إسوة بإقليم كوردستان.
نحن لا نقرأ التاريخ بعيون الصقور، ندعي الصقورية لكننا مجرد فئران تجارب لحروب الآخرين، فقط لو طبقنا ما كتبه جورج أورويل في مزرعة حيواناته وفي ديكتاتورية الأخ الأكبر الذي دونه في عام 1984، لو فهمنا ما قاله للبلدان التي تحولت الى ساحات لحروب الغير: ( ان هدف الحرب الاساسي هو انزال الدمار ليس بالضرورة بحياة الناس بل بنتاج العمل الانساني، فالحرب هي السبيل لتبديد واهدار موارد كان من شأنها لو استخدمت في ما ينفع الجماهير العريضة ان ترتد عليهم بالخير والرفاهية، وان تجعلهم على المدى الطويل اكثر وعيا وادراكاً للامور من حولهم، وحتى اذا لم يتم تدمير ما انتج من اسلحة في حرب فعلية فإن عملية تصنيعها تبقى في حد ذاتها طريقة لاستنفاد الجهد البشري دون انتاج اي شيء يمكن ان يعود بالنفع على الناس”.
لم نعد نملك شيئاً من السنين والأيام غير أهات وإنكسارات العمر المحروق في أتون الحرب، وغير صمت أقرب ما يكون من صمت الحائرين والمتعبين.
نحن لم نساعد على احتلالك يا وطن!، كنا أشجع من شجاعة الفلاح الروسي الذي بتر يده بعد أن نقش نابليون أول حرف من إسمه عليه لأنه قال: ” أنا لا أعرفك يا نابليون ولن أدلك على الدرب الذي يؤدي الى قريتي لأني وكل ما أملك ملك لبلدي”.
كنا شجعان بما فيه الكفاية لكن القوى الضبابية أعدمت الشجعان في الميادين والأزقة المظلمة وسلمتك إلى قوى أسوأ منها. الشجعان أعدموا لكن الشجاعة والإيمان واليقين برب العالمين ومن ثم بك يا وطن مازال حياً يرزق. أستودعك بحماية الله يا وطن والودائع لا تضيع عند الله.
هذا المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له أي علاقة بوجهة نظر شبكة نودم الإعلامية.