الرقة بعد التحرير: انتصار عسكري.. أم صراعٌ سياسيٌ مؤجل:

بقلم: الدكتور الصحافي مسعود حامد

في الذكرى الثامنة لتحرير مدينة الرقة أو ما تعُرَف (بعاصمة الخلافة) من تنظيم “داعش”، والتي كانت لحظة مفصلية في الحرب السورية، ليس فقط لأنها أنهت وجود التنظيم في عاصمته المعلَنة، بل لأنها كشفت عن طبيعة الصراع الحقيقي في سوريا: صراع النفوذ لا صراع المبادئ.
فبعد ثماني سنوات على التحرير، تبدو الرقة اليوم رمزاً لما يمكن أن نسميه “الفراغ السياسي بعد النصر العسكري” — مدينة خرجت من تحت راية التطرف وسطوة الإرهاب الممنهج الذي أنهك الشعب والسكان، لكنها لم تدخل بعد في ظل دولة مستقرة أو نظام سياسي متماسك، نتيجة للصراع السياسي بين الجهات التي تستولي على زمام السلطة في دمشق، لتصبح الرقة ودير الزور ورقة للّعب والمساومة السياسية.
من داعش إلى قسد: انتقال السلطة أم تبدّل جهات الصراع؟
حين دخلت قوات سوريا الديمقراطية الرقة بدعم من التحالف الدولي، رآها كثيرون لحظة خلاص، وإنهاء زمن الحرب، والتحوّل نحو حياة هادئة، غير أن ما تلا التحرير كشف عن معادلة أكثر تعقيداً. فالقوة التي أسقطت « داعش » بالرغم من أنها كانت تحمل مشروعاً وطنياً جامعاً، وتنفّذ رؤية جغرافية – سياسية مدعومة من الفكر الوطني للبلاد، وتثبّت نموذج « الإدارة الذاتية » في شمال وشرق سوريا. إلا أن المعضلات والصعوبات في تحقيق حياة امنة للسكان بدأت تتبلور في ظل الأنظمة التي سيطرت على مقاليد الحكم في البلاد، ليكون السكان والجغرافية السورية سوقاً لتحقيق مآربهم السياسية ومكاسبهم الشخصية.
الرقة، في هذا السياق، لم تكن سوى حلقة في مشروع أكبر، تتقاطع فيه مصالح وطنية وكردية عربية سريانية أرمنية تركمانية وشركسية من جهة، وحسابات تركية وسورية من جهة أخرى. والنتيجة أن المدينة تحررت عسكرياً لكنها دخلت في وصاية سياسية جديدة، أقل عنفاً لكنها لا تقل تعقيداً.
إدارة مدنية أم أمر واقع؟
الإدارة المدنية التي أُنشئت بعد التحرير شكّلت تجربة فريدة في سوريا من حيث الشكل، لكنها بقيت محدودة الفاعلية. فغياب التمثيل الواسع لأبناء المدينة في إدارة الدولة وعم تقبلها من قبل السلطات، عقّد المسألة الإدارية والمعيشية، التي كان يحلم بها المواطنون في تلك المنطقة، كما أن تداخل الهياكل العسكرية، والتهديدات الفعلية من الخارج وخلق حالة الفوضى، أدخل المؤسسات المدنية نفقاً صعباً، وجعل من الحكم المحلي أداة لضبط الأمن أكثر من كونه نموذجاً للحكم والعيش الرغيد، بسبب الصراع والتدخّل الخارجي في الصراع الداخلي.
من جهة أخرى، استُخدم شعار “الاستقرار المحلي” لتبرير استمرار الوجود الأمريكي، في حين ظل مصير المدينة رهين التفاهمات بين واشنطن وأنقرة، أو بين روسيا ودمشق، لا بين الرقة وأبناء المنطقة.
التحرير الذي لم يكتمل:
إذا كان التحرير يعني استعادة الأرض، فالرقة حُررت.. لكن إذا كان يعني استعادة السيادة والمواطنة، فإن الطريق ما زال طويلاً.
فالتناقض بين الخطاب الدولي حول « تحرير الشعوب من الإرهاب »، وبين واقع ما بعد التحرير صار واضحاً: فالمجتمع الدولي تراجع عن التزامه بإعادة الإعمار، تاركاً السكان يواجهون الفقر والدمار بمفردهم.
ومع غياب أي مشروع سياسي شامل لسوريا، تبقى الرقة نموذجاً للانتصار الناقص — انتصار عسكري لم يُترجم إلى استقرار سياسي أو اجتماعي، حتي بعد سقوط نظام بشار الأسد، بل ظلّت الرقة وسكانها بكل مكوناتهم كحجر الشطرنج، تحاول الأنظمة استخدامهم في الصراع والمفاوضات الداخلية.
الرقة كمرآة لسوريا:
الرقة اليوم ليست مجرد مدينة منسية في الشمال، بل مرآة لسوريا كلها. فيها تتجلى معضلة البلاد: غياب الدولة، واستبدال الإرهاب المباشر بالنفوذ غير المعلن من الدول الإقليمية، في محاولة لخلق حالة من الفوضى الخلّاقة لبقاء الحجة في التدخّل في الشؤون الداخلية للمنطقة.
لكن وسط هذا الركام، ثمّة بذور أمل. فالحياة المدنية بدأت تعود تدريجياً، والإدارة الذاتية لإقليم شمال شرق سوريا تحاول خلق مبادرات تعليمية وثقافية تعيد للمدينة روحها. المشكلة ليست في قدرة الناس على النهوض، بل في غياب البيئة السياسية والأمنية التي تسمح لهم بذلك.
خاتمة: من يملك الرقة؟
السؤال الحقيقي بعد التحرير ليس من حرر الرقة، بل من يمتلك مستقبلها. هل ستكون المدينة جزءاً من مشروع وطني سوري جديد، أم ورقة في لعبة النفوذ بين القوى الإقليمية والدولية؟
الإجابة لم تُحسم بعد، لكن المؤكد أن الرقة – بما تمثّله من رمزية – ستبقى اختباراً حقيقياً لمدى قدرة السوريين على تحويل النصر العسكري إلى مشروع وطني جامع. فمن دون ذلك، سيبقى التحرير مجرد عنوان جميل يغطي فراغاً سياسياً عميقاً، بعد أن ضحّت الرقة وسكان المنطقة بأغلى ما يملكون من أجل إنهاء سلطة الإرهاب أو ما يُعرف بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق و الشام (داعش).
لا تزال قوات سوريا الديمقراطية (قسد) إلى جانب أبناء المدينة يحاولون إعادة الحياة الإجتماعية، والأمنية، والثقافية لها، وما تكرسه الإدارة الذاتية لإقليم شمال شرق سوريا من خدماتٍ جبّارة لإعادة إعمارها، وتحسين مستوى الحياة.
  • Related Posts

    قتلى وجرحى في انفجارٍ بريف مدينة الشدادي

    خاص: Nûdem أدى انفجار في ريف مدينة الشدادي جنوبي محافظة الحسكة السورية

    القبض على عصابة سرقت البنك العربي في دمشق

    محمد أمين عبدالله أعلنت وزارة الداخلية السورية اليوم عن إلقاء القبض على عصابة أقدمت

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    You Missed

    الرقة بعد التحرير: انتصار عسكري.. أم صراعٌ سياسيٌ مؤجل:

    • من Nudem
    • أكتوبر 20, 2025
    • 203 views
    الرقة بعد التحرير: انتصار عسكري.. أم صراعٌ سياسيٌ مؤجل:

    قتلى وجرحى في انفجارٍ بريف مدينة الشدادي

    • من Nudem
    • أكتوبر 20, 2025
    • 134 views
    قتلى وجرحى في انفجارٍ بريف مدينة الشدادي

    القبض على عصابة سرقت البنك العربي في دمشق

    • من Nudem
    • أكتوبر 20, 2025
    • 124 views
    القبض على عصابة سرقت البنك العربي في دمشق

    اطلاق سراح معتقلي قضية كوباني مفتاح السياسة الديمقراطية.

    • من Nudem
    • أكتوبر 19, 2025
    • 314 views
    اطلاق سراح معتقلي قضية كوباني مفتاح السياسة الديمقراطية.

    شروط إنضمام قسد للجيش السوري

    • من Nudem
    • أكتوبر 18, 2025
    • 294 views
    شروط إنضمام قسد للجيش السوري

    رسالة زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان إلى نيجيرفان بارزاني وطلب منه قيادة عملية السلام.

    • من admin-roz
    • أكتوبر 15, 2025
    • 114 views