من الصراع إلى المصالحة: العدالة الانتقالية كحجر أساس لسوريا الجديدة

بقلم: سوسن أمين

من رحم شعبٍ عانى ويلات الحرب و النزوح والمجازر ، ولدت صرخة متعطشة للسلام، صرخة تتوهج بالإرادة رغم كل ما تعرض له من تهجير وإبادات، فحتى في أقسى اللحظات، لم تفقد روح هذا الشعب الرغبة في الوصول إلى الحرية والكرامة، وظل حلمه بالعودة إلى زمن الأمان والاستقرار حلمًا صعب المنال، لكنه لم يغب عن قلبه، كصرخة ترفض الانكسار، وكنور يرفض أن يخبو في ليل الحرب الطويل.

وفي خضم هذا الألم والتمزق، أصبح الحلم بتحقيق العدالة ثقيلاً كبيراًعلى كاهل هذا الشعب، نتيجة تداعيات ما سُمّي بـ(الربيع العربي)، الذي ترك وراءه مجتمعات متهالكة تواجه تحديات هائلة، ليس فقط لإعادة بناء مؤسساتها، بل لمعالجة الكم الهائل من إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تركها وراءه.

– فالمجتمعات التي خرجت من النزاعات المسلحة والأنظمة الاستبدادية تحتاج إلى مشاريع شاملة، تسعى لإعادة بناء الثقة بين المواطنين والدولة، بهدف إرساء مرحلة جديدة من الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وانشاء دولة تقوم على سيادة القانون والعدالة والمساواة.

– في هذا السياق، برز مفهوم العدالة الانتقالية كأداة أساسية لتحقيق المصالحة الوطنية، وحماية حقوق الضحايا، وإرساء دولة القانون التي تمنع الإفلات من العقاب وتضمن عدم تكرار الانتهاكات.

– أما في سوريا، والتي عانت من تراكم انتهاكاتٍ ارهقت شعبها لما يزيد عن الأربعة عشر عامًا، واشتدات الانقسامات الطائفية والإثنية ضمنها، أصبحت العدالة الانتقالية شرطًا أساسيًا وضرورتاً حتمية، لأي انتقال ديمقراطي مستدام، يهدف لإقامة سوريا جديدة تقوم على احترام حقوق الإنسان، وتكافؤ الفرص بين جميع مكوناتها.

العدالة الانتقالية كتعريف: هي مفهوم حديث نسبيًا في القانون الدولي لحقوق الإنسان، نشأ مع نهاية القرن العشرين، مستندًا إلى تجارب شعوب خرجت من أنظمة استبدادية أو صراعات داخلية، وهي مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية التي تهدف إلى معالجة إرث الانتهاكات الجسيمة، وتحقيق التوازن بين المساءلة والمصالحة وجبر الضرر.

– تسعى العدالة الانتقالية في معناها العام إلى تجاوز منظور العقوبة التقليدي، لتشمل آليات متعددة من شأنها بناء مجتمع يضمن العدالة لجميع الضحايا، ويضع قيودًا فعالة لمنع تكرار الجرائم ضد الإنسانية، جامعًة بذلك بين البعد القانوني وحقوق الإنسان، بحيث يصبح كشف الحقيقة، ومحاسبة الجناة، وتعويض الضحايا جزءًا من مشروع وطني شامل، يسعى لإعادة بناء مجتمع ينهض بالعدالة والكرامة ويحمي المستقبل من الانتهاكات.

– تتجسد روح العدالة الانتقالية في عدة آليات مترابطة، تعكس الجمع بين القانون وحقوق الإنسان، أهمها:

1. كشف الحقيقة: حيث تهدف لجان الحقيقة المستقلة إلى توثيق الانتهاكات، وضمان اطلاع المجتمع على حجم المآسي التي ارتكبت ضد المدنيين، وهو شرط أساسي لإعادة بناء الثقة بين الشعوب المتواجدة ضمن رقعة جغرافية واحدة.

2. المساءلة والمحاسبة: وتشمل المحاكم الوطنية والدولية، والتي تؤكد على مبدأ عدم الإفلات من العقاب، لضمان أن الجرائم الجسيمة لن تبقَ بلا محاسبة.

3. جبر الضرر وتعويض الضحايا: ويشمل التعويض المالي والمعنوي، وإعادة الاعتبار للضحايا، لتعزيز مشاركتهم في الحياة السياسية والاجتماعية.

4. الإصلاح المؤسسي: ويتمثل بإصلاح الأجهزة الأمنية والقضائية لضمان استقلالها وحيادها، وإبعاد المتورطين في الانتهاكات عن مواقع السلطة.

5. ضمانات عدم التكرار: ويشمل في مضمونه إصلاح القوانين، ونشر ثقافة حقوق الإنسان، وتعليم الأجيال القادمة قيم العدالة والكرامة.

– هذه الآليات تتكامل لتشكّل مشروعًا وطنيًا شاملاً، يجمع بين البعد القانوني وحقوق الإنسان، ويضمن الانتقال من مجتمع ممزق إلى مجتمع يقوم على سيادة القانون والمواطنة المتساوية.

– تهدف العدالة الانتقالية إلى ما هو أبعد من العقوبة، فهي تضع الأساس لبناء مجتمع مستقر وعادل، يسعى لإرساء السلم الأهلي والمصالحة الوطنية من خلال معالجة أسباب الانقسام والصراعات، وإعادة الثقة بين الدولة والمجتمع عبر إصلاح المؤسسات وتحقيق العدالة، إضافة إلى محاربة ثقافة الإفلات من العقاب لضمان عدم تكرار الجرائم التي تم ارتكابها، كما أنها تسلط الضوء على تمكين الضحايا وإشراكهم في صياغة المستقبل السياسي والاجتماعي، وإعادة بناء دولة القانون وحماية حقوق الإنسان كأساس لأي تحول ديمقراطي.

واقع سوريا وإمكانية تطبيق العدالة الانتقالية:

شهدت سوريا منذ عام 2011 نزاعًا مسلحًا مدمّرًا، أدى إلى مقتل مئات آلاف المدنيين، ونزوح ملايين، وتعرض جميع المكونات للمجازر والإبادات والانتهاكات بمختلف أشكالها.

– في ظل هذه الظروف يبقى السؤال عالقًا في أذهان كل السوريين: هل من الممكن تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا الجديدة؟؟؟ أم أن الأمر بالغ التعقيد والصعوبة، ويتطلب عملاً ومجهودًا جبارًا من كل القوى الفاعلة على الأرض لتخفيف تلك الذاكرة الجمعية المأساوية التي طبعت في أذهان الشعب بكل مكوناته؟ رغم أن الشعب السوري في الوضع الراهن هو أحوج ما يكون لتطبيقها لإعادة الأمن والاستقرار في البلاد.

– ومن أبرز التحديات التي تواجه تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا: استمرار النزاع في بعض المناطق، غياب مؤسسات وطنية قوية وموحدة، فقدان الثقة بين مكونات المجتمع، والتدخلات الإقليمية والدولية التي تعقد مسارات العدالة والمصالحة.

– لكن هناك أيضًا فرص حقيقية، مثل الحاجة الملحة لإنهاء دائرة العنف، رغبة الضحايا في العدالة، وجود دعم دولي محتمل، والاستفادة من تجارب مقارنة مثل جنوب أفريقيا والمغرب.

– لذا يمكن للعدالة الانتقالية في سوريا أن تكون ممكنة إذا توفرت إرادة سياسية حقيقية، ضمن إطار قانوني شامل، وتقديم ضمانات ساعية لحماية حقوق جميع المكونات.

هل ستكون العدالة الانتقالية مدخلاً مثالياً لبناء سوريا الجديدة؟

– إذا تعمقنا في هذا السؤال أكثر نجد أن العدالة الانتقالية تمثل حجر الزاوية في بناء سوريا الجديدة، إذ لا يمكن تجاوز الماضي من دون الاعتراف به وإعادة الاعتبار للضحاياه، ذلك من خلال صياغة عقد اجتماعي جديد قائم على المواطنة المتساوية، حيث يمكن لسوريا أن تصبح دولة تحمي حقوق الإنسان بكل ما تحويه من مكونات سواء أكانوا علويين أو دروز أو عربًا وأكراد وسريان وغيرهم الكثير.

– فالعدالة الانتقالية ستساهم في بناء ذاكرة جماعية تحصن المجتمع وتحميه من تكرار المآسي، مؤسِّسة لديمقراطية مستدامة تقوم على حقوق الإنسان وسيادة القانون والمصالحة الوطنية، لتصبح جزءًا من مشروع الدولة الجديدة.

– العدالة الانتقالية ليست خيارًا ثانويًا، بل ضرورة تاريخية وقانونية وإنسانية ملحة، تمثل الأساس لبناء دولة القانون والمواطنة المتساوية، وتوفر فرصة حقيقية لبناء مستقبل قائم على المصالحة والوحدة الوطنية المستدامة.

– فتطبيق العدالة الانتقالية في سوريا يتطلب إرادة سياسية حقيقية، وتعاونًا وثيقًا بين الحكومة الانتقالية ومنظمات المجتمع المدني والهيئات الدولية، من خلال إنشاء هيئة وطنية مستقلة تستند إلى قانون صادر عن المجلس التشريعي، يمكنها تحقيق المساءلة، وكشف الحقيقة، وجبر الضرر للضحايا.

– مع ذلك، تظل هناك تحديات كبيرة، أبرزها ضياع الأدلة، ضعف البنية المؤسسية، والضغوط السياسية، لذلك فإنه من الضروري أن يكون المسار الانتقالي شاملاً، يضم جميع الأطراف، ويعتمد على معايير حقوق الإنسان والعدالة.

فقط من خلال هذا النهج يمكن لسوريا أن تتجاوز ماضيها الأليم، وتبني مستقبلًا يسوده السلام والعدالة.

– إن العدالة الانتقالية ليست مجرد عملية قانونية، بل عملية مجتمعية وثقافية تتطلب تضافر الجهود، وفهمًا عميقًا لخصوصية الحالة السورية.

– سوريا لا يمكن أن تُبنى من جديد إلا على أساس العدالة وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان، والعدالة الانتقالية هي البوصلة الأخلاقية والقانونية التي توجه البلاد نحو فجر جديد، حيث تُكرم كرامة الإنسان وتُعاد الثقة بين السوريين ودولتهم.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *