كارثة بيئية تفتك بالإنسان والطبيعة،نار في الأرض سم في السماء 

تحرير:أفين عثمان

 

في قرى وبلدات شمال وشرق سوريا، لم يعد الدخان الأسود الذي يحجب وجه الشمس ظاهرة غريبة على السكان. إنه نتاج حراقات النفط البدائية التي انتشرت كالنار في الهشيم منذ عام 2012، تحولت من مجرد بديل اقتصادي للحصول على الوقود إلى قاتل صامت يفتك بالبشر والشجر والحجر، هذه الحراقات التي ولدت من رحم الحرب والأزمات، أصبحت اليوم تشكل تهديداً وجودياً للبيئة والإنسان في المنطقة.

 

_ما هي حراقات النفط البدائية؟

 

حراقات النفط هي منشآت بدائية للتكرير تعتمد على تقنيات بسيطة وخطيرة، حيث يتم وضع النفط الخام في خزانات معدنية تسع لحوالي 100 ألف لتر، ثم تسخينه من الأسفل باستخدام إطارات السيارات القديمة أو الفيول أو الخشب. تمر عملية التكرير بمراحل مختلفة حسب درجة الحرارة

عند (150 درجة مئوية) يتبخر البنزين ويتكثف في أنابيب معدنية مغمورة في برك ماء

عند درجات حرارة أعلى يستخرج الكيروسين

عند أعلى درجات الحرارة يستخلص المازوت

انتشرت هذه الحراقات بشكل كبير  في دير الزور، والحسكة، حيث يقدر عددها بمئات الوحدات المنتشرة

الانتشار الجغرافي لحراقات النفط في مناطق شمال وشرق سوريا

 

محافظة دير الزور ( غير محدد) أبو النيتل، القرى المحيطة بالحقول النفطية.

محافظة الحسكة    (غير محدد) القرى المحيطة بحقول الرميلان

الآثار البيئية المدمرة تلوث شامل يعبر الحدود  :

 

1. تلوث الهواء وانبعاث الغازات السامة

تطلق الحراقات كميات هائلة من الغازات الخطيرة التي تسمم الهواء وتتسبب في أمراض  مميتة. ومن أخطر هذه الغازات:

 

(أول أكسيد الكربون) غاز سام يرتبط بالهيموغلوبين ويسبب الصداع والنعاس وقد يؤدي إلى الغيبوبة والموت خلال 30 دقيقة فقط من التعرض

(كبريتيد الهيدروجين)  ذو رائحة البيض الفاسد، ويسبب فقدان حاسة الشم وتثبيط الخلايا العصبية والوفاة

(ثاني أكسيد الكبريت وأكاسيد النيتروجين) التي تتحول إلى أمطار حمضية تدمر الغطاء النباتي

(الهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات)  مواد مسرطنة تبقى في البيئة لفترات طويلة

 

ووفقاً لخبير البيئة بلند مالا، فإن نصيب الفرد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في شمال وشرق سوريا يتجاوز المتوسط العالمي بأكثر من 300 طن متري سنوياً .

 

2- تدمير التربة والغطاء النباتي

الأضرار لم تقتصر على الهواء فحسب، بل امتدت إلى التربة والمياه والنبات. فقد تحولت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية الخصبة إلى أراض جرداء سوداء. المزارع أحمد سعيد من قرية ترحين يشير بمأساوية إلى أرضه التي كانت تنتج خمسة آلاف شوال من المحاصيل، فأصبحت لا تنتج سوى 200-300 شوال فقط.

 

3- تلوث المياه الجوفية

النفايات النفطية المتبقية من عملية التكرير يتم إلقاؤها في المستنقعات أو دفنها في حفر، مما يتسبب في تسرب المواد السامة إلى طبقات الأرض ووصولها إلى المياه الجوفية، ملوثةً مصادر الشرب والري لعقود قادمة.

 

_الآثار الصحية أمراض مميتة وتشوهات خلقية.

 

الآثار الصحية لحراقات النفط مرعبة ومأساوية، حيث تحولت مناطق بأكملها إلى بؤر للأمراض المزمنة والقاتلة. الأمراض الأكثر انتشاراً:

(أمراض الجهاز التنفسي) الربو والانسداد الرئوي المزمن،

(السرطانات) خاصة سرطان الرئة وسرطان الدم (اللوكيميا)، حيث يتم تسجيل حوالي 1500 حالة سرطان جديدة شهرياً في شمال شرق سوريا

(التشوهات الخلقية) زيادة كبيرة في حالات الإجهاض والتشوهات  الأجنة.

(أمراض القلب والشرايين)  تأثير المواد السامة على الدورة الدموية.

 

_الجانب الاقتصادي والاجتماعي معضلة البقاء بين الحياة والموت

 

وراء هذه الكارثة البيئية قصة اجتماعية واقتصادية معقدة. فمن ناحية، تشكل الحراقات مصدر رزق للآلاف من العائلات الفقيرة التي أنهكتها الحرب.

 

ومن ناحية أخرى، فإن المكاسب الاقتصادية لا تقارن بالخسائر البيئية والصحية الفادحة. فالعاملون في هذه الحراقات يعرضون حياتهم للخطر اليومي، كما حدث في بلدة أبو النيتل شمال دير الزور حيث توفي ثلاثة عاملين نتيجة استنشاق غازات سامة .

 

_ الحلول والمقترحات نحو مستقبل أكثر أماناً واستدامة

 

1-إدخال تقنيات تكرير أقل تلويثاً  مثل استيراد مصافي حديثة إلى منطقتنا للقضاء على المصافي البدائية وتلوثها .

 

2- الانتقال إلى الطاقة المتجددة

دعم مشاريع الطاقة الشمسية والطاقة المتجددة لتقليل الاعتماد على الوقود التقليدي .

 

3- برامج التوعية والمراقبة الصحية ويشمل المراقبة الصحية طويلة المدى للسكان المعرضين للمرض وتقديم المساعدة الطبية لهم.

4- إشراك المجتمع الدولي

تحمل المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية مسؤولية الحد من التلوث و توفير موارد الطاقة المستدامة وخبرات المعالجة .

بيئة سوريا بين مطرقة الحرب وسندان التلوث.

 

حراقات النفط في شمال وشرق سوريا تمثل مثالاً صارخاً على كيف يمكن للحرب أن تترك وراءها إرثاً تدميرياً طويل الأمد يتجاوز الخسائر البشرية والمادية المباشرة. إنها قصة مأساوية حيث يضطر الإنسان لاختيار بين لقمة العيش وحماية بيئته وصحته.

 

إن إنقاذ ما تبقى من بيئة سوريا يتطلب جهوداً عاجلة ومكثفة على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية.  إنها مأساة إنسان وبيئة وأجيال قادمة تدفع ثمن حرب لم تخترها.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *