“العدالة الانتقالية في سورية بين جِراح الماضي وآمال المستقبل

تحرير:

حيدر يوسف

منذ عقد ونصف من الزمان ، يعيشُ السوريون واحدة من أعنف المآسي التي شهدها العالم في تاريخه الحديث ، فالحرب التي اندلعت عام 2011 لم تقتصر على معارك متفرقة بين اولئك الذين يحملون السلاح ، بل شهدت على انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ، وهذه الانتهاكات تركت جُرحاً عميقاً في البناء المجتمعي للأمة السورية ، جعلت الحديث عن اي عملية سلام او إعادة اعمار ضرباً من الخيال قبل اعادة الحقوق لاصحابها.

وهنا يبرز مفهوم العدالة الانتقالية باعتباره أداة لا غنى عنها للخروج من دوامة العنف والحرب الاهلية ، والعدالة الانتقالية هنا لا تعني باي شكل من الاشكال الانتقام ، او الاقتصار على محاسبة مجرمي الحرب من طرف من الاطراف دون سواه من اطراف النزاع.

 

معنى العدالة الانتقالية وأهدافها:

العدالة الانتقالية هي مجموعة تدابير سياسية واجتماعبة وقانونية تعتمدها الدول الخارجة من صراعات مسلحة او حروب اهلية او حكم انظمة استبدادية لمحاسبة المسئولين عن جرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ، وجبر ضرر الضحاية ، واعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع.

 

وللعدالة الانتقالية أدوات عديدة أبرزها :

الحقيقة: اي كشف المعلومات والبيانات عبر لجان تحقيق او مؤسسات مستقلة توثق الانتهاكات وتكشف مصير المفقودين.

المساءلة :من خلال محاكم علنية يديرها قُضّات وطنيون او دوليون لمحاسبة مرتكبي الإنتهاكات الكبرى.

جبر الضرر: تقديم تعويضات مادية ومعنوية للضحاية وعائلاتهم وإعادة دمجهم في المجتمع.

إصلاح المؤسسات: اي إعادة هيكلة مؤسسات الدولة خصيصاً مؤسسات الامن والقضاء ، باعتبارها الادوات الاولى لاي نظام استبدادي في عملية القمع.

حفظ الذاكرة: وهي من اهم الادوات ، فالذاكرة سلاح اي شعب ضد الاستبداد ، يمنع تكرره من خلال عدم السماح بوصول مستبدين جدد للحكم في البلاد.

لماذا نحتاج في سورية الى عملية عدالة انتقالية:

الوضع السوري يختلف عن اغلب الحالات التاريخية المشابهة ، بسبب طول أمد النزاع وتشابك أطرافه واخذ الصراع منحنى طائفي وعِرقي ، ما خلف مئات آلآف الشهداء والمفقودين ، وملايين النازحين واللاجئين ، ما جعل رد الحقوق لاصحابها ومحاسبة المجرمين أمر لا مفر منه للوصول لحالة من السلم المجتمعي يسمح بالبدء بأعادة الاعمار وأعادة بناء مؤسسات الدولة السورية.

تجارب عالمية تعدُ دروساً مفيدة لسورية

سوريا ليست الدولة الاولى التي تمر بتجربة كهذه ، فهناك الكثير من الدول مرت بتجارب مماثلة نذكر منها :

جنوب أفريقيا:

بعد سقوط نظام الفصل العنصري ، أسست جنوب افريقيا لجنة الحقيقة والمصالحة ، الفكرة كانت ببساطة “العفو مقابل الحقيقة”

اي منح الجناة عفواً إذا اعترفوا علناً بجرائمهم ، هذه الطريقة ساعدت في الكشف عن كم هائل من الحقائق ، ووفرت أساساً لمصالحة نسبية بين ابناء جنوب افريقيا ، لكنها تعرضت لانتقادات لانها لم تحقق المساءلة الكاملة ، وسمحت للكثير من الجناة بالنجاة بانفسهم.

كولومبيا:

أنشاء اتفاق السلام مع حركة “فارك” نظاماً قضائياً خاصاً وهو الولاية الخاصة للسلام (JEP) ، وهو يقدم نموذجاً مبتكراً يقدم عقوبات بديلة مقابل الاعتراف بالحقيقة والتعويض عن الجرائم ، وهذا التوازن بين العدالة والسلام جعل الكثير من الباحثين يعتبره واحداً من النمازج الناجحة نسبياً.

ما الذي يمكن أن نستفيده في سورية؟

1) لا مصالحة بلا حقيقة: التجارب السابقة أثبتت أن تجاهل كشف الحقائق يؤدي الى اعادة إنتاج الصراع.

2) أولوية الضحايا: إشراك الضحاية وعائلاتهم في صنع القرارات يضمن مصداقية اكبر للعملية الانتقالية.

3)التوازن بين العدالة والسلام : العدالة المطلقة قد تهدد الاستقرار ، والسلام المطلق يعني افلات الجناة من العقاب ما يهدد الاستقرار ، المطلوب هنا التوازن الدقيق.

4)الإصلاح المؤسسي: يجب ان تشمل اي عملية عدالة انتقالية في سورية على اصلاح الأجهزة الامنية والمنظومة القضائية منعاً لتكرر الجرائم بحق المدنيين.

5) حفظ الذاكرة: يجب العمل على أرشفة الجرائم وإنشاء مبادرات مجتمعية لحفظ الذاكرة الجمعية للشعب.

وفي الختام ، تجارب العالم تؤكد أن العدالة الانتقالية ليست عصا سحرية ، لكنها شرط ضروري ولا غنى عنه لأي عملية سلام مستدام ، في سورية قد يبدو الطريق طويل ومعقد ، لكن لا مستقبل من دون مواجة الماضي ، فالعدلة الانتقالية ليست فقط خيار سياسي ، بل هي ضرورة اخلاقية لانصاف الضحاية ، وعملية نفعية لمنع تكرار الاستبداد والظلم مجدداً ، وبناء ارضية من السلم بين الناس لاعادة الاعمار وفتح أفاق لمستقبل مختلف.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *