
بقلم: المحامي أحمد عبد الرحيم
قراءة قانونية وسياسية في صناعة الإقصاء
المقدمة
في الشرق الأوسط، تُستخدم الكلمات كسيوف، لا كجسور. فبدل أن تكون الهوية أداة للتواصل، تتحول إلى سلاح للإقصاء. خطاب الكراهية الموجَّه نحو الكورد والعلويين والدروز يكشف أزمة عميقة في مفهوم الدولة والمواطنة، حيث يُفضَّل وهم “الأكثرية” على حساب التنوع الطبيعي للمجتمعات.
يُختزل الكوردي بأنه “لاجئ”، والعلوي بأنه “نصيري”، والدرزي بأنه “عميل”. وكأن هذه التسميات تكفي لنزع شرعية وجودهم التاريخي على أرضهم. إنها ليست مجرد ألفاظ عابرة، بل مشروع متكامل لإلغاء التعددية.
الأقليات كوصمة سياسية
لم يكن مصطلح “الأقلية” يومًا توصيفًا ديمغرافيًا بريئًا، بل أداة سياسية لإعادة إنتاج التراتبية. القوى التي تدّعي تمثيل “الأكثرية” كثيرًا ما تقدم نفسها بوصفها الوريث الشرعي لـ”الخلافة” أو “بني أمية”، وتستحضر هذا الإرث لتبرير التهميش والإقصاء.
الكوردي: “لاجئ” في أرضه.
العلوي: “نصيري” منحرف.
الدرزي: “عميل” للخارج.
بهذا الاختزال، تتحول الهوية إلى وصمة، والتنوع إلى تهمة.
آليات إنتاج الكراهية
- التاريخ المُختلق: يُصوَّر الكورد كوافدين، والعلويون كغرباء، والدروز كطارئين.
- اللغة الدينية: تُوظَّف النصوص لتكفير هذه الجماعات أو تخوينها.
- التعميم: يُحمَّل أفراد جماعة مسؤولية أفعال أنظمتها أو بعض أفرادها.
- شيطنة الهوية: يُحوَّل التنوع إلى خيانة وطنية.
- التعليم: تُزرع الصور النمطية في المناهج لتصبح “حقائق” راسخة في وعي الأجيال.
أمثلة تاريخية ومعاصرة
الكورد: الإحصاء الاستثنائي عام 1962 في الحسكة حوّل عشرات الآلاف إلى “أجانب بلا حقوق”، ورسّخ صورة أنهم “لاجئون”.
العلويون: وُصفوا بـ”النصيريين” وأُخرجوا من دائرة الإسلام، ليصبحوا هدفًا للتكفير.
الدروز: رغم دورهم المحوري في الثورة السورية الكبرى، وُصِموا بالعمالة، وتضاعف الاتهام في الحرب الأخيرة بتصويرهم كمتقلبين بين النظام والمعارضة.
خطاب الكراهية لم يكن حكراً على النظام؛ فحتى قوى معارضة وإعلام عربي فضائي أعاد إنتاج الصور النمطية ذاتها، ما جعله ظاهرة عابرة للجهات.
الأبعاد السياسية
خطاب الكراهية ليس عارضًا، بل مشروع سياسي يهدف إلى نزع الشرعية التاريخية عن الجماعات المستهدفة وتبرير إقصائها. “الأكثرية” التي يجري الحديث عنها ليست غالبًا حقيقة ديموغرافية، بل بناء إيديولوجي يُستدعى لتسويغ السيطرة والهيمنة.
دور الإعلام ورجال الدين
الإعلام الرسمي والمعارض معًا رسّخ قوالب جاهزة: الكوردي انفصالي، العلوي متسلط، الدرزي متقلب.
بعض رجال الدين حوّلوا المنابر إلى أدوات تحريض، فأضفى خطابهم “شرعية دينية” على العنف.
الآثار
- تفكيك النسيج الوطني.
- تغذية الحروب الأهلية.
- شرعنة التمييز والإقصاء.
البعد القانوني الدولي
القانون الدولي لا يعد خطاب الكراهية مجرد “رأي”، بل جريمة تهدد السلم الأهلي:
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948): نص على المساواة وعدم التمييز.
العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية (1966): المادة 20 تُلزم بحظر أي دعوة إلى الكراهية القومية أو الدينية أو العرقية.
اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري (1965): تجرّم نشر الأفكار القائمة على التفوق العرقي أو الكراهية.
خطة عمل الرباط (2012): وضعت معايير دقيقة للتفريق بين حرية التعبير وخطاب الكراهية.
التجربة القضائية الدولية: كالمحكمة الجنائية لرواندا، حيث أُدينت وسائل إعلام اعتبرت مسؤولة عن التحريض على الإبادة.
الواقع السوري
رغم أن سوريا موقعة على معظم هذه الاتفاقيات، فإن التطبيق غائب. بل إن خطاب الكراهية استُخدم رسميًا ضد الكورد (“مجرّد أجانب”)، وضد العلويين (“طائفة مرتبطة بالنظام”)، وضد الدروز (“عملاء أو متقلبون”).
الحرب السورية كشفت أن غياب تشريعات وطنية رادعة جعل البلاد ساحة مفتوحة للتحريض، ما سهّل ارتكاب المجازر والتهجير.
الخاتمة
خطاب الكراهية ضد الكورد والعلويين والدروز ليس مجرد لغة قاسية، بل مشروع لإلغاء التعددية. مواجهته تتطلب:
- قوانين وطنية واضحة تُجرّم خطاب الكراهية.
- مؤسسات قضائية مستقلة تُطبق هذه القوانين.
- مشروع وطني قائم على المواطنة المتساوية، لا على ثنائية “أكثرية/أقلية”.
إن بناء سوريا جديدة لن يبدأ بإعادة إعمار الحجر، بل بإعادة إعمار الوعي، ليصبح التنوع ضمانة للبقاء، لا مبررًا للإقصاء.