منذ أكثر من عقد، تعيش سوريا أزمة اقتصادية خانقة انعكست على جميع جوانب الحياة اليومية. الليرة السورية التي كانت يوماً ما رمزاً للاستقرار النقدي، فقدت الكثير من قيمتها أمام العملات الأجنبية، حتى أصبحت التعاملات اليومية تتم بمبالغ ضخمة لا تعكس في حقيقتها قيمة حقيقية، بل مجرد أرقام متضخمة نتيجة التضخم الكبير.
في هذا السياق، طُرحت فكرة إزالة الأصفار من العملة السورية كخطوة إصلاحية قد تُسهم في تسهيل الحياة الاقتصادية. هذا الإجراء ليس جديداً عالمياً، فقد لجأت إليه العديد من الدول في مراحل أزماتها، بعضها نجح وحقق نتائج ملموسة، وبعضها فشل لأنه لم يترافق مع إصلاحات أعمق.
أولاً: ما معنى إزالة الأصفار من العملة؟
إزالة الأصفار تعني إصدار عملة جديدة بعد حذف عدد من الأصفار من العملة الحالية.
على سبيل المثال: إذا كان سعر قطعة خبز 10,000 ليرة سورية، وبعد إزالة ثلاثة أصفار تصبح 10 ليرات فقط. هذا التغيير لا يعني أن الأسعار انخفضت أو أن الاقتصاد تحسن، بل هو مجرد إجراء حسابي وشكلي يهدف لتبسيط المعاملات المالية وتسهيل حياة المواطنين.
ثانياً: الأسباب التي تدفع إلى التفكير بإزالة الأصفار
1. التضخم المفرط: الأسعار ارتفعت أضعافاً مضاعفة، وأصبح من الصعب التعامل مع أرقام كبيرة جداً.
2. صعوبة المعاملات اليومية: المواطن العادي يحتاج إلى حمل أوراق مالية كثيرة لدفع ثمن حاجاته الأساسية.
3. مشاكل في النظام المصرفي والمحاسبي: التعامل مع أرقام مليونية ومليارية يرهق الأنظمة المحاسبية.
4. اعتبارات نفسية ومعنوية: عندما يرى المواطن عملة جديدة خالية من الأصفار، قد يشعر بأن الوضع الاقتصادي أفضل نسبياً.
ثالثاً: الفوائد المحتملة لإزالة الأصفار
رغم أن الإجراء بحد ذاته لا يحل جذور الأزمة، إلا أن له بعض المزايا.
1. تسهيل التعاملات اليومية: بدلاً من أن يدفع المواطن مليون ليرة لشراء حاجاته، يمكنه الدفع بألف أو مئة بعد الحذف.
2. تقليل تكاليف الطباعة والتداول: أوراق نقدية صغيرة الحجم تسهّل التخزين والنقل.
3. تخفيف العبء عن الأنظمة المحاسبية والمصرفية: الحسابات تصبح أبسط.
4. تعزيز الثقة النفسية بالعملة: حتى لو كانت مؤقتة، قد يشعر الناس بأن العملة “أقوى” من السابق.
5. إعطاء صورة عن نية الدولة بالإصلاح: وقد يُستخدم كإشارة سياسية أمام المجتمع الدولي.
رابعاً: السلبيات والأضرار المحتملة
لكن بالمقابل، هناك مخاطر وسلبيات:
1. إجراء شكلي غير جوهري: إذا لم تترافق إزالة الأصفار مع إصلاح اقتصادي حقيقي، سرعان ما تعود الأسعار للارتفاع وتفقد العملة الجديدة قيمتها.
2. تكاليف كبيرة لطباعة العملة الجديدة: من ناحية التصميم، الطباعة، توزيعها على المصارف، وسحب القديمة.
3. احتمال فقدان الثقة: المواطن قد يعتبر الخطوة “خداعاً شكلياً”، خصوصاً إذا لم تتغير القوة الشرائية.
4. تأثير سلبي على المدخرات الصغيرة: إذا حصل ارتباك في التحويلات أو عمليات التبديل، قد يخسر المواطنون جزءاً من مدخراتهم.
5. تجارب فاشلة سابقة في العالم: مثل زيمبابوي وفنزويلا، حيث أزالوا الأصفار مرات عديدة دون فائدة لأن الاقتصاد لم يُعالج.
خامساً: تجارب دولية سابقة
تركيا (2005): أزالت ستة أصفار من عملتها بعد إصلاحات اقتصادية حقيقية، ونجحت نسبياً في استعادة الثقة بالليرة.
البرازيل: مرّت بتجارب متعددة لإزالة الأصفار حتى استقرت بعد إصلاحات جذرية.
زيمبابوي وفنزويلا: أزالوا الأصفار أكثر من مرة، لكن التضخم استمر لأن السياسات الاقتصادية لم تتغير.
هذه التجارب توضح أن إزالة الأصفار قد تنجح إذا جاءت ضمن خطة إصلاح متكاملة، لكنها تفشل إذا كانت مجرد خطوة شكلية.
سادساً: الوضع السوري الراهن
سوريا حالياً تعيش في وضع اقتصادي معقد:
تضخم مرتفع جداً وفقدان شبه كامل لقيمة العملة.
ضعف الإنتاج المحلي بسبب الحرب والعقوبات.
اعتماد كبير على الاستيراد مقابل عجز في التصدير.
تراجع احتياطي النقد الأجنبي وصعوبة التدخل لدعم الليرة.
في ظل هذه الظروف، فإن إزالة الأصفار قد تسهّل الحسابات لكنها لن تحسّن مستوى المعيشة أو ترفع القوة الشرائية. المواطن السوري سيظل يواجه نفس الغلاء حتى لو تغير شكل العملة.
سابعاً: ما المطلوب لنجاح الخطوة؟
لكي تنجح عملية إزالة الأصفار، يجب أن تترافق مع:
1. إصلاحات اقتصادية حقيقية: دعم الإنتاج المحلي وتشجيع الاستثمار.
2. استقرار سياسي وأمني: لأن الاقتصاد لا ينمو في أجواء اضطراب.
3. تحسين الثقة بالقطاع المصرفي: عبر إصلاح النظام البنكي وتشجيع الادخار.
4. محاربة الفساد: حتى لا تتحول أي خطوة إصلاحية إلى عبء جديد.
5. خطة إعلامية توعوية: لشرح معنى الخطوة للمواطنين كي لا يلتبس عليهم الأمر.
إزالة الأصفار من العملة السورية تبدو كخطوة جذابة من الناحية الشكلية، فهي تسهّل حياة الناس وتبسط الحسابات. لكنها ليست عصا سحرية لحل الأزمة الاقتصادية. إذا لم تترافق مع إصلاح شامل في الإنتاج، التجارة، السياسات النقدية والمالية، فإنها ستبقى مجرد عملية تجميلية لا تغير جوهر المشكلة.
بالتالي، نجاح التجربة في سوريا يتوقف على مدى استعداد الحكومة لتنفيذ إصلاحات اقتصادية حقيقية تسبق أو ترافق إزالة الأصفار، وإلا فإن العملة الجديدة ستفقد قيمتها بسرعة، وسيتكرر نفس السيناريو الذي عاشته دول أخرى فشلت في هذه الخطوة.
