خطاب الكراهية في سوريا: بين الانقسام وإمكانات التعافي

تقرير:سوسن خلف

لم تعد الحرب في سوريا تقاس وتحصى بالمدافع والقنابل فحسب، إنما امتدت لتغزو العقول والقلوب، لتغتال ما تبقى من ثقة وألفة بين البشر، فأصبحت الكلمات نفسها ساحات قتال (الكلمة) التي كانت يوماً جسراً نحو التفاهم والتقارب، تحوّلت اليوم لتصبح خنجراً مسموماً غُرس في الوعي الجمعي، خنجراً زرع الخوف والحقد في قلوب السوريين وسعى لتفكيك النسيج الاجتماعي الذي نسجه السوريون عبر قرون من تعايش مشترك.

ففي زمن تفشى فيه خطابات الكراهية، لم تعد هذه الظاهرة مجرد قول جارح أو تهكم عابر، إنما أصبحت استراتيجية ممنهجة وأداة لإعادة إنتاج العداء، أصبحت سلاحاً يستهدف الهوية المشتركة للمجتمع.

فالكلمة تتسلل إلى القلوب قبل العقول، خالقة دواماتٍ من الشك والريبة، ومشرعةً للانقسام لشعوب تقطن ضمن واقع جغرافي واحد، محولة بذلك من يختلف عن ذلك المجتمع عدواً له، فأثر هذه الخطابات لا يقتصر على اليوم فقط، إنما يمتد ليترك ندوباً عميقة في الذاكرة الجمعية للشعوب، ويهدد استقرار الأجيال الموجودة ضمنه، محولاً التواصل والحياة التشاركية بين الناس إلى حربٍ مستمرة أشد فتكا من أي قذيفة.

إن تعمقنا لفهم ظاهرة خطاب الكراهية الذي بدأ بالاستشراء في سوريا مؤخراً، ليس مجرد تأمل نظري، إنما غدا ضرورة حتمية لفهمٍ أعمق لما خلفته الأزمة من أبعاد نفسية واجتماعية وسياسية، فهو فك لشيفرة كيفية تحوّل الكلمة إلى سلاح تدميري في أيدي من يسعون لتفكيك المجتمع من الداخل.

في هذه المقالة سنقوم بسبر أغوار هذه الظاهرة، ونكشف عن آليات انتشارها، بتوضيح تفصيلي لما غدا عليه خطاب الكراهية وكيف أصبح أحد أخطر أسلحة الحرب الحديثة، ليس في الأرض فقط، بل في العقل والروح أيضاً، ففي سوريا اليوم، أصبح خطاب الكراهية أحد أخطر أدوات التدمير، ليس لأنه يقتل الجسد مباشرة، بل لأنه يقتل الثقة، ويهدم الروابط بين المكونات، ويزرع الشك والريبة في كل زاوية من حياتنا اليومية، إنه الريح السوداء التي تتسلل بصمت إلى البيوت، فتترك ندوباً عميقة في النفوس قبل أن تترك أثرها على الحجر.

فخطاب الكراهية كتعريف ليس مجرد انتقادٍ أو رأيٍ سلبي، بل هو ممارسةٌ كلاميةٌ أو كتابية أو رمزية تهدف إلى التحريض على العداء والتمييز والعنف ضد جماعات أو أشخاص على أساس هويتهم.

وقد تتعدد أشكاله بحسب تنوع واختلاف كل مجتمع عما يمر به من ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية، لتكون على شكل شتائم عنصرية، أو ازدراء طائفي وتحريض على القتل والإقصاء، أو حتى نشر الصور النمطية التي تصنع الآخر “عدواً وجودياً”.

أما وبحسب تحليل الأمم المتحدة لهذا المصطلح فإن خطاب الكراهية هو “أي نوع من التواصل، سواء بالكلام أو الكتابة أو السلوك، يهاجم أو يستخدم لغة تحقيرية بحق شخص أو جماعة على أساس دينهم، عرقهم، جنسهم، قوميتهم، لونهم، أو أي عامل من عوامل الهوية”.

فمصطلح خطاب الكراهية لم يظهر فجأة في سوريا خلال الأزمة الحالية، بل هو نتيجة لتراكم طويل الأمد استمر على مدار عقود، ابتدأ من أيام الانتداب الفرنسي الذي اعتمد على سياسة “فرّق تسد” بتشجيع الهويات الطائفية والإثنية على حساب الهوية الوطنية، وصولاً إلى مرحلة ما بعد الاستقلال والانقلابات العسكرية التي أعطت طابعاً يعمل على تصوير الكثير من الحركات السياسية على أنهم ليسوا سوى عملاء وخونة، ما غذّى ثقافة سياسية ترى المختلف عدواً لهم، تاركة إرثاً من الشك والريبة بين الطوائف.

أما في عهد البعث، والذي امتد إلى ما يزيد عن النصف قرن، ورغم تركيزه على الوحدة الوطنية، إلا أنه كان يستخدم في كثير من الأحيان خطابات سياسية تشيطن المعارضين له، مصوراً إياهم كما لو كانوا تهديداً، وأن استمرارهم سيشكل خطراً على الأمة، كما حدث في الثمانينيات وما قامت به حكومة البعث من إبادات ومجازر بحق الإخوان المسلمين في حلب وحماه، وما قام به من تغييرات ديمغرافية للمناطق الكردية في الجزيرة السورية مع منع وحرمان مئات الآلاف منهم من الجنسية أو التحدث باللغة الأم، مصورين الكرد على أنهم “أجانب انفصاليون”، ما أحدث فجوة بينهم وبين باقي المكونات.

كل هذه الأمثلة وضحت مدى خطورة خطاب الكراهية التي عملت الأنظمة المتلاحقة على تغذيته، مما شكل أرضية خصبة لتفشي خطابات التحريض والانقسامات ضمن الدولة السورية خلال مرحلة الأزمة وما تلاها من استلام الحكومة الانتقالية زمام الحكم في البلاد.

مع انطلاق الأزمة عام 2011، ظهر جيل جديد من المؤثرين: إعلاميون، ناشطون على وسائل التواصل، دعاة، وحتى فنانون، كان من الممكن أن يوحدوا المجتمع حول مطالب الحرية والعدالة، إلا أن قسماً كبيراً منهم اختار تصدير خطابات تحريضية قائمة على الانقسام والاتهام، مستخدمين وسائل التواصل كأداة متوفرة لدى جميع الفئات المجتمعية لبث رسائل الخوف والتحريض، لتنتشر بذلك الاتهامات بالعمالة والخيانة والارتباط بالخارج، ليس للأفراد فقط، بل للمكونات بأكملها، وليصبح الفضاء الرقمي منصة غنية لتضخيم خطاب الكراهية، حيث يمكن لأي منشور أن يصل إلى آلاف المتابعين في دقائق.

خطاب الكراهية لم يكن مجرد عرض جانبي، بل أداة لإدارة الصراع وتقسيم المجتمع، حيث عملوا على تصوير الصراع على أنه حرب بين الطوائف والقوميات بدلاً من كونه أزمة سياسية واجتماعية، وتحميل جماعة كاملة مسؤولية أفعال فردية أو تنظيمية، بعرض قصص فردية على أنها دليل على مدى خطورة مكون بأكمله، ما أدى إلى تفكيك الهوية الوطنية وتغذية الانتماءات الفرعية على حساب الانتماء المشترك لسوريا.

نتيجة لذلك، تفتت النسيج الاجتماعي الذي كان يربط بين الكردي والعربي، السني والعلوي، المسيحي والإيزيدي، الدرزي والآشوري، وبرز السؤال المؤلم: هل يمكن أن نعيش معاً كما كنا؟ لكن الإجابة مع الأسف تكون بالنفي، لأن خطاب الكراهية أثر بشكل كبير على النسيج الاجتماعي مع انتشار مفاهيم انعدام الثقة بين الأفراد والجماعات القاطنين ضمن المجتمع الواحد، كما أصبح القتل أو التهجير أسهل بكثير عند تصوير “الآخر” على أنه عدو، ما ساهم في تهجير كم هائل من العقول والخبرات والطاقات البشرية الفاعلة بسبب الشعور بعدم الأمان، مع تصدع قيم العيش المشترك بين جميع المكونات بشكل خطير يدعو للتخوف من مستقبل سوريا، الدولة الثرية بمكوناتها وطوائفها الدينية والعرقية.

كيف يمكن إنهاء خطاب الكراهية في سوريا؟

إن معالجة خطاب الكراهية يتطلب استراتيجية شاملة في مقدمتها: بناء خطاب بديل، يتمثل في إبراز المشتركات الوطنية والثقافية، واستعادة ذاكرة التعايش.

التربية المدنية، بإدماج قيم المواطنة والمساواة في المناهج التعليمية والتربوية

كما ويتحمل الإعلام المسؤولية بفرض ضوابط لمواجهة التحريض، وتعزيز دور الصحافة المستقلة.

كذلك الأمر بالنسبة للمساءلة القانونية، والتي تعتبر من أهم وأبرز البنود الساعية لإعادة بناء سوريا، حيث لا بد من إيجاد قوانين تجرّم التحريض على الكراهية والعنف، مع ضمان عدم استخدامها لقمع المعارضة، إضافتاً لتمكين المجتمع المدني، بدعم المبادرات الشبابية والنسوية لبناء جسور الثقة، وكان الحوار الأهلي مكملاً لذلك بإطلاق مسارات مصالحة محلية تعيد بناء الثقة بين المكونات.

لعلاج مصطلحات خطاب الكراهية بشكلٍ أعمق ، كان لابد من إيجاد طرق بديلة بإرساء مفاهيم جديدة تساهم في إصلاح ما خلفته سنين طويلة من الحرب والدمار التي عاشتها سوريا.

تمثلت: بتطبيق مبادئ ومفاهيم السلم الأهلي، التي تعيد للناس شعور الانتماء المشترك وتتيح لهم مساحة لسرد التجارب بكل صدق وشفافية، إضافة لتطبيق مبادئ العدالة الانتقالية الممثلة بكشف الانتهاكات وإقرار الحقائق دون انتقام، لإعادة الاعتبار للضحايا ومنع تكرار الانتهاكات التي تعرضوا لها بكل أشكالها.

القيام بإنشاء مشاريع اقتصادية مشتركة يعيد الترابط بين الأفراد في المجتمع من خلال مصالح يومية مشتركة.

العمل على إعادة إحياء القيم الثقافية والفنية لدى كامل المجتمع السوري بما يحويه من مكونات وطوائف، لأنها قادرة على تفكيك الصور النمطية وإعادة بناء خيال جماعي منفتح.

إن خطاب الكراهية في سوريا لم يكن مجرد كلمات، إنما كان قذائف صامتة اخترقت القلوب قبل الحجر، مهددة مستقبل التعايش المشترك الذي لطالما تميز به المجتمع السوري.

فالشعب يستطيع إعادة بناء ذاته ومداواة جراحه بالحوار والاعتراف المتبادل بالتنوع والفسيفساء المجتمعية، وليس بالكراهية.

إن مستقبل سوريا لن يولد إلا إذا تخلّت الألسنة عن سمومها، وعادت الكلمات جسوراً لا جدراناً. وحده التعايش والمصالحة الوطنية قادران على إعادة بناء وطن حقيقي لكل السوريين.

رسالتنا اليوم واضحة: لن يكون هناك وطن ما لم نتعلم أن نرى في اختلافنا قوة لا لعنة، ولن يكون هناك مستقبل ما لم نحطم جدران الكراهية ونفتح نوافذ الأمل.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  • Related Posts

    منظمة بيل – الأمواج المدنية تعقد ندوة حوارية حول السلم الأهلي والتماسك المجتمعي في روج آفايي كردستان

    ‏أقامت منظمة بيل – الأمواج المدنية ندوة حوارية في مقر اتحاد مثقفي روج آفايي كردستان، تحت عنوان: ‏“إلى تحقيق مجتمع سوري يتمتع بالعيش في مناخ داعم للسلم الأهلي والتماسك المجتمعي،…

    قواتنا تفشل محاولات تسلل واعتداء مدفعي لمجموعات تابعة لحكومة دمشق في دير حافر

          تصدّت قواتنا بكل حزم لمحاولات التسلل والاعتداء المدفعي التي أقدمت عليها مجموعات منفلتة تابعة لحكومة دمشق في منطقة دير حافر، وأفشلت تلك المحاولات بشكل كامل. وتؤكد قواتنا…

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    You Missed

    خطاب الكراهية في سوريا: بين الانقسام وإمكانات التعافي

    • من admin-roz
    • سبتمبر 11, 2025
    • 32 views

    منظمة بيل – الأمواج المدنية تعقد ندوة حوارية حول السلم الأهلي والتماسك المجتمعي في روج آفايي كردستان

    • من admin-roz
    • سبتمبر 11, 2025
    • 49 views
    منظمة بيل – الأمواج المدنية تعقد ندوة حوارية حول السلم الأهلي والتماسك المجتمعي في روج آفايي كردستان

    قواتنا تفشل محاولات تسلل واعتداء مدفعي لمجموعات تابعة لحكومة دمشق في دير حافر

    • من admin-roz
    • سبتمبر 11, 2025
    • 23 views

    كلمة الشيخ غزال غزال في جنيف

    كلمة الشيخ غزال غزال في جنيف

    قصف إسرائيلي للوفد الفلسطيني في قطر 

    قصف إسرائيلي للوفد الفلسطيني في قطر 

    دماء تحت عباءة الدين

    دماء تحت عباءة الدين