اللامركزية السياسية بين حلم الحرية و شبح التفكك.

✍️حيدر يوسف

لم تكن اللامركزية السياسية يوماً مجرد تفصيل إداري في بنية الدولة ، بل هي واحدة من أكثر القضايا حساسية في علم السياسة والقانون الدستوري ، فهي تمس جوهر السلطة ، كيف تُمارس؟ وأين تمُارس؟ ولمن تُمنح؟ ولذلك نجد أن كل محاولة لتطبيق اللامركزية السياسية تاريخياً ، حملت معها توترات سياسية ودستورية حادة ، أنتجت أحياناً دولاً قوية ومستقرة ، واحياناً اخرى دولاً متصدعة إنتهت الى الانقسام.

بين الدين والسياسة:
إذا عدنا إلى القرن السادس عشر ، نلمح أولى ملامح اللامركزية السياسية في أوروبا عبر صلح أوغسبورغ (1555) ، الذي حاول معالجة الصراع الكاثوليكي–البروتستانتي داخل الإمبراطورية الرومانية ، الاتفاقية منحت الأمراء المحليين سلطة تقرير الانتماء الديني لمناطقهم ، وهو ما عرف بمبدأ (من يملك الأرض يحدد الدين) ، صحيح أن الهدف كان دينياً ، لكنه جسّد بذرة الاعتراف السياسي بسلطات محلية مستقلة عن المركز الإمبراطوري.

هذه البذرة تطورت مع صلح ويستفاليا عام 1648 ، الذي وضع حداً لحرب الثلاثين عاماً ، وأرسى مبدأ سيادة الدول ، هنا برز لأول مرة مبدأ أن السلطة لا تُحتكر في مركز واحد مطلق ، بل قد تتوزع وفق اعتبارات قومية أو إقليمية ، وهو الأساس الفلسفي لما صار لاحقاً أنظمة فدرالية.

التجربة الأمريكية: العقد الاجتماعي الفدرالي:
مع نهاية القرن الثامن عشر ، حملت الولايات المتحدة نموذجاً جديداً للامركزية السياسية ، فبعد حرب الاستقلال (1776) ، وجدت الولايات الثلاث عشرة نفسها أمام معضلة: كيف نؤسس اتحاداً يحافظ على استقلال كل ولاية وفي نفس الوقت ينشئ حكومة مركزية قوية بما يكفي لإدارة شؤون الدفاع والاقتصاد؟

الحل جاء عبر دستور 1787، الذي اعتُبر أول نص قانوني متكامل ينظم العلاقة بين المركز والأقاليم في العالم حيث نصّ الدستور على تقسيم الصلاحيات بين المركز والولايات وفق الاتي:

صلاحيات حصرية للمركز (السياسة الخارجية ، الدفاع ، العملة)

صلاحيات حصرية للولايات (التعليم ، الشرطة المحلية)

وصلاحيات مشتركة تُمارس تحت رقابة المحكمة العليا.

وبهذا، تحوّلت اللامركزية من مجرد تسوية سياسية إلى منظومة قانونية محمية بالنصوص الدستورية وبسلطة القضاء.

التجربة الألمانية: الفدرالية كحاجز ضد الاستبداد:

بعد الحرب العالمية الثانية ، واجهت ألمانيا سؤالاً وجودياً كيف تمنع عودة النازية وكل أشكال تركّز السلطة المطلقة؟ الحل كان الدستور الأساسي لعام 1949 ، الذي رسّخ نموذجاً فدرالياً متشدداً ، نص على ما يلي:

كل ولاية تمتلك برلماناً وحكومة خاصة.

للولايات دور مباشر في التشريع الاتحادي عبر مجلس البوندسرات.

المحكمة الدستورية الاتحادية تفصل في النزاعات بين المركز والولايات.

وهنا لم تكن الفدرالية مجرد خيار إداري ، بل ضمانة قانونية للحريات السياسية ، حيث تُجبر الدولة على توزيع السلطة بما يمنع الاستبداد.

الحالة السويسرية:
تُعتبر سويسرا المثال الأبرز على نجاح اللامركزية السياسية في إدارة التنوع ، منذ وضع دستور 1848 ، اعتمدت البلاد نظام الكانتونات ، حيث لكل كانتون لغته وثقافته وتشريعاته المحلية الخاصة، بينما يحافظ الاتحاد على السيادة الخارجية والجيش والعملة،
فالخصوصية السويسرية تكمن في أن الدستور لم يكتف بمنح الأقاليم سلطات ، بل أرسى آليات الديمقراطية المباشرة (الاستفتاءات والمبادرات الشعبية) لضمان مشاركة فعلية للمواطنين في صنع القرار ،هنا اللامركزية لم تكن مجرد توزيع سلطات ، بل بناء عقد اجتماعي على قاعدة التعددية والاعتراف بالاختلاف.

الفشل التاريخي: الدرس اليوغوسلافي
اللامركزية ليست دوماً وصفة للاستقرار
، فالتجربة اليوغوسلافية في القرن العشرين خير مثال على ذلك ، فقد تبنّت البلاد دستور 1974 الذي منح جمهوريات الاتحاد صلاحيات واسعة وصلت إلى حد امتلاك حق النقض على قرارات المركز ، وعندما غابت الآليات القضائية القوية والضمانات الدستورية الصارمة ، تحولت الفدرالية إلى صراع مفتوح على الاستقلال ، انتهى بتفكك الاتحاد وحروب دموية في التسعينيات.

من الناحية القانونية، يمكن تلخيص الإطار النظري للامركزية السياسية في ثلاث ركائز:
الدستورية: أي أن توزيع الصلاحيات يجب أن يكون مكتوباً بوضوح في الدستور ، لا في قوانين سهلة التغير.

الفصل بين السلطات: بحيث تُنشأ محاكم دستورية أو هيئات رقابية تضمن عدم تجاوز أي طرف حدود صلاحياته.

مبدأ التكامل: أي أن القرارات الكبرى التي تمس وحدة الدولة تظل بيد المركز ، بينما القرارات المرتبطة بالهوية والثقافة والإدارة المحلية تُمنح للأقاليم.

هذه الركائز هي ما يحدد إن كانت اللامركزية ستُصبح أداة للوحدة أم مدخلاً لانقسام البلاد.

تكشف لنا التجارب التاريخية أن اللامركزية السياسية ليست وصفة واحدة قابلة للتكرار في كل مكان وزمان ، فهي في الولايات المتحدة ضمنت قيام اتحاد قوي ، وفي ألمانيا شكّلت درعاً ضد الاستبداد ، وفي سويسرا صارت وسيلة للتعايش ، بينما في يوغوسلافيا تحولت إلى سبب للتفكك ، فالقاسم المشترك بين النجاحات والفشل يكمن في القانون الدستوري: فحين تُبنى اللامركزية على أسس قانونية راسخة ، وتُحمى بمؤسسات قضائية قوية ، تصبح عاملاً للاستقرار ، أما حين تبقى رهينة موازين القوة السياسية دون نصوص منظمة ، فإنها تتحول سريعاً إلى سبب من اسباب التفكك.

ختامًا ، يبقى السؤال مطروحًا أمام السوريين: هل تكون اللامركزية السياسية طريقًا لإعادة بناء الدولة على أسس عادلة ومتوازنة ، أم تتحول إلى مدخل لتفتيت البلاد وتمزيق نسيجها، بحيث تذوب فكرة الأمة السورية في دويلات صغيرة يحكمها الولاء الطائفي والعرقي والديني؟

  • Related Posts

    “مؤامرة الحبر – جنازات قصائد مذبوحة”

    برعاية الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا واتحاد كتاب كوردستان – سورية، أقيم في قلعة كافيه مساء يوم أمس في فعالية ثقافية مميزة حفل توقيع ديوان الشاعر فرهاد دريعي…

    الولايات المتحدة تدرس إلغاء العقوبات على سوريا.

    ✏️محمد أمين عبدالله صرحت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية “تامي بروس” مساء اليوم الجمعة،” أن إدارة الرئيس دونالد ترامب تدعم إلغاء العقوبات المفروضة على سوريا بموجب “قانون قيصر” من خلال…

    You Missed

    “مؤامرة الحبر – جنازات قصائد مذبوحة”

    • من admin-roz
    • نوفمبر 3, 2025
    • 186 views
    “مؤامرة الحبر – جنازات قصائد مذبوحة”

    الولايات المتحدة تدرس إلغاء العقوبات على سوريا.

    الولايات المتحدة تدرس إلغاء العقوبات على سوريا.

    إيدي كوهين.. “الأقليات في سوريا تتحسر على زمن الأسد… والاتفاق بين دمشق وقسد مؤقت”

    • من Nudem
    • أكتوبر 31, 2025
    • 3776 views
    إيدي كوهين.. “الأقليات في سوريا تتحسر على زمن الأسد… والاتفاق بين دمشق وقسد مؤقت”

    اختتام فعاليات معرض الشهيد هركول الدولي للكتاب في قامشلو

    • من admin-roz
    • أكتوبر 27, 2025
    • 304 views
    اختتام فعاليات معرض الشهيد هركول الدولي للكتاب في قامشلو

    الانتخابات الامل الفيدرالي للشعب القبرصي

    • من Nudem
    • أكتوبر 25, 2025
    • 672 views
    الانتخابات الامل الفيدرالي للشعب القبرصي

    وفاة مراسلة روج آفا كولى جاويش بعد صراع طويل مع مرض عضال

    • من Nudem
    • أكتوبر 25, 2025
    • 455 views
    وفاة مراسلة روج آفا كولى جاويش بعد صراع طويل مع مرض عضال