أمي…يا ألماً لا يندمل…يا حباً لا يموت

أمي…يا ألماً لا يندمل…يا حباً لا يموت

بقلم: الدكتور مسعود حامد

تستيقظ التنهيدة في صدري قبل أن أستيقظ أنا، كأنها أصبحت اليقظة التي تسبق كل نهار، والجرح الذي يسبق كل فكرة. تنهيدة طويلة، مشروخة الأطراف، أعرف أن بدايتها منكِ… ومنذ رحيلك لم أعرف لها نهاية. تنهيدة تحملني إلى منتصف الحنجرة، حيث يصبح الكلام شوكاً، والصوت باباً مغلقاً، والاسم الذي كنت أهمس به “أمي” يصير ثقيلًا إلى حدّ أن الأرض ترجف حين يُنطق.

 

أمي… يا أول رحمةٍ عرفتها وأول وجعٍ اخترقني. أقولها في داخلي كي لا يسمعني أحد، لأنني إن قلتها جهراً سينهار جدار كامل في داخلي، وسأهوى من علوّ السنين إلى حضنٍ لم يعد موجوداً إلا في الذاكرة. أقولها وكأن الكون كلّه أصمّ، وكأن الرحيل الذي ابتلعكِ أطفأ كل الأذن، كل الضوء، كل الحياة.

 

من بعدكِ صارت الروح شجرة بلا جذور، تسقط مع أول ريح، ترتجف مع أول ذكرى، وتبكي مع أول رائحة تشبهك. كنتِ الحياة حين كانت الحياة جميلة، وكنتِ الصبر حين ضاقت الدنيا، وكنتِ المعنى حين صار كل شيء بلا معنى. الآن… انطفأ المعنى.

 

يا أمي، كيف يجرؤ القلب على الخفقان بعدك؟ كيف لا يزال يمشي هذا الجسد، ويأكل، ويتنفس، ويحادث الآخرين وكأن شيئاً لم يتكسّر؟ الحقيقة أن كل شيء تكسّر… كل شيء. لم أعد أنا ذات الشخص. رحيلك أخذني معك، أخذ نصف الصوت، نصف العين، نصف الطريق. ترك داخلي فراغاً لا أحد يعرف شكله، لا أحد يعرف اتساعه، لا أحد يلمس حدوده سواي.

 

أتذكرك في أبسط التفاصيل، في حركة يدك التي كانت تهدهد العالم من حولي، وفي صوتك الذي كان يطمئن الحجر لو خاطبته. أتذكرك وأتساءل: كيف غاب من كان وجوده فوق القدرة على الغياب؟ كيف يختفي وجهٌ كان يضيء المكان حتى لو كان الليل مكتملاً؟ كيف تموت امرأة كانت الحياة تمشي معها أينما سارت؟

 

ما زالت في أذني كلماتك الأخيرة، وما زال في صدري ارتجاف اللحظة التي شعرت فيها أن يدك بدأت تبرد. كنتُ أظن أنني سأكون قوياً، أنني سأودّعك كما يودّع الناس أحبتهم، لكنني انهرت أمامك كطفل فقد كل شيء. لم أكن مستعداً. لم أكن أملك الشجاعة. أنتِ لستِ شخصاً يمكن للمرء أن يستعد لفقده… أنتِ الأم.

 

كل العالم قال لي: “هذه هي الدنيا، كلنا نفقد.” لكن لا أحد يفهم أن فقدك ليس كأي فقد، وأن غيابك ليس فراغاً يمكن أن يُملأ بالوقت أو بالصبر أو بكلمات المواساة. لا أحد يعرف أن حزني عليك ليس مرحلة… بل وطن جديد أعيش فيه، وطن مظلم، بارد، صامت، يشبه ظلك حين اختفى.

 

أكتب إليك الآن وكأن الكتابة طريقٌ يوصلني إليك، وكأن الحرف يد تمتد في العتمة تبحث عن يدك. أكتب لأنني عاجز عن الكلام، لأن صوتي يبكي قبلي، ولأن الدموع التي تسقط على الورق ليست سوى ما تبقّى من قلبي حين فُقِد قلبه الأكبر.

 

أمي… يا وجعاً لا يهدأ، ويا غياباً لا يُصدّق. أحياناً أغمض عيني فأراكِ تقتربين، تلمسين رأسي كما كنتِ تفعلين، تبتسمين تلك الابتسامة التي كانت تهزم تعبي كله. أراكِ لكنني لا ألمسك. أسمعكِ لكنني لا أقترب. أفتح عيني فأجدني وحدي. وحدي تماماً، كما لم أكن يوماً من قبل.

 

أخبريني… كيف استطاع التراب أن يحتضنك؟ كيف استطاع أن يخبئ امرأة كانت كلّها نوراً؟ هل صار التراب جميلاً لأنكِ فيه؟ أم صرتِ أنتِ غائبة لأن الدنيا لم تعد تستحق وجودك؟

 

بعد رحيلك، تغير كل شيء. لم تعد البيوت بيوتاً، ولا الأيام أياماً، ولا الأشخاص أشخاصاً. كل شيء صار ناقصاً. كل شيء صار كئيباً. حتى الأشياء التي كنت أحبها فقدت بريقها. كأنني فقدت معها القدرة على الفرح، القدرة على الدهشة، القدرة على أن أكون كما كنت. صار الفرح خيانة، والضحك ثِقلاً، والوقت سيفاً يذكّرني بأنكِ لن تعودي.

 

أمي، ما زلت أبحث عنك في الوجوه، في الأصوات، في الشوارع، في ضوء الصباح الذي كنتِ تستقبلينه ابتسامة. أبحث عنكِ في كل شيء، مع أنني أعرف أنكِ في مكان لا تصل إليه الطرق.

 

لو كان بإمكاني أن أعود بالزمن، لاحتضنتك أكثر، لقلت لكِ أكثر، لجلست عند قدميك أكثر، لسمعت نصائحك كلها، لشاركتك كل لحظاتي، ولقلت لكِ كل يوم: “أحبك”… تلك الكلمة التي صارت الآن قنبلة تبكيني حين أتذكر أنني لم أقلها بما يكفي.

 

أمي…

يا فرحاً رحل وظلّ صوته في أذني،

يا دفئاً انطفأ وظلّ نوره في روحي،

يا قلباً توقف وظل نبضه يحرك حياتي.

 

إن كان الفقد امتحاناً… فقد كان امتحاناً قاسياً. وإن كانت الدموع عزاءً… فهي لا تعزّي. وإن كان الزمن يداوي… فما زال جرحي ينزف كما في اليوم الأول.

 

سلامٌ عليكِ حين ولدتك الحياة، وحين غادرتِها، وحين تركتِ في قلبي أثراً لا يمحوه شيء.

سلامٌ عليكِ في الغياب الذي صار أثقل من الدنيا.

 

وإن كان لا بد أن أحيا… فسأحيا وأنا أحملك في كل نبضة، في كل خطوة، في كل تنهيدة تُولد من وجعي عليك.

  • Related Posts

    مسيرات في دمشق تثير جدلاً واسعاً

    شهدت شوارع دمشق خلال الأيام الماضية خروج مجموعات موالية للسلطات في مسيرات تقرير: روجدا حسن

    هل تستطيع إيران كسر الحصار عبر تركيا وباكستان؟

    هل تستطيع إيران كسر الحصار عبر تركيا وباكستان؟

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    You Missed

    مسيرات في دمشق تثير جدلاً واسعاً

    • من Nudem
    • ديسمبر 6, 2025
    • 37 views
    مسيرات في دمشق تثير جدلاً واسعاً

    هل تستطيع إيران كسر الحصار عبر تركيا وباكستان؟

    • من Nudem
    • ديسمبر 5, 2025
    • 74 views
    هل تستطيع إيران كسر الحصار عبر تركيا وباكستان؟

    أمي…يا ألماً لا يندمل…يا حباً لا يموت

    • من Nudem
    • ديسمبر 4, 2025
    • 179 views
    أمي…يا ألماً لا يندمل…يا حباً لا يموت

    مسـ ـلحو الحكومة الانتقالية يستهدفون ريف دير حافر بالأسـ ـلحة الثقيلة

    • من Nudem
    • ديسمبر 3, 2025
    • 140 views
    مسـ ـلحو الحكومة الانتقالية يستهدفون ريف دير حافر بالأسـ ـلحة الثقيلة

    من يتجرأ بعد حاجو بالاستقالة

    • من Nudem
    • ديسمبر 3, 2025
    • 203 views
    من يتجرأ بعد حاجو بالاستقالة

    ورشة لتعزيز الوعي بالأمن الرقمي

    • من Nudem
    • ديسمبر 1, 2025
    • 90 views
    ورشة لتعزيز الوعي بالأمن الرقمي