دماء تحت عباءة الدين: الصراع الأخلاقي بين الالتزام الديني والرفض السياسي… كيف حوّلت الحرب السورية الدين إلى ساحة صراع؟
يواجه الإنسان في حياته العديد من المعضلات الأخلاقية التي تضع قيمه ومبادئه على محك الاختبار أحد أكثر هذه المعضلات تعقيداً هي عندما يجد الإنسان نفسه في صراع بين التزاماته الدينية من جهة، ورفضه السياسي والأخلاقي لنظام حكم معين من جهة أخرى.
بين فتاوى الطاعة وتصنيفات الإرهاب:
المعضلة الأخلاقية لرفض النظام الحاكم الحالي في سوريا بقيادة “أحمد الشرع الملقب “بأبو محمد الجولاني”، والذي يعتبر نظاماً إرهابياً، وبحسب قرار من مجلس الأمن الدولي. (AL-NUSRAH FRONT FOR THE PEOPLE OF THE LEVANT، 2014). “تم إدراج تنظيم جبهة النصرة لأهل الشام في قائمة العقوبات الدولية بتاريخ 14 مايو/أيار 2014 بموجب الفقرتين 2 و3 من القرار الأممي 2083 (2012)، وذلك بسبب ارتباطه الوثيق بتنظيم القاعدة، وقد استند القرار إلى أدلة تثبت مشاركة الجبهة في تمويل وتسهيل الأنشطة الإرهابية التي ينفذها تنظيم القاعدة.(QDe.004) وتنظيم القاعدة في العراق (QDe.115)، سواء عبر التخطيط المباشر أو التنفيذ أو الدعم اللوجستي كم ادرج أسم أبو محمد الجولاني .(QDi.317) في 24 تموز/يوليو 2013“ جاء القرار وفقًا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، والذي يمنح مجلس الأمن سلطة اتخاذ إجراءات ملزمة لجميع الدول الأعضاء في حالات تهديد السلم والأمن الدوليين.
بينما تفرض التعاليم الدينية طاعة ولي الأمر وفقاً لتفسيرات الفقهاء التقليدية، فإن هذا التناقض يمس صميم الأخلاق النظرية والتطبيقية، مما يستدعي تحليل الموقف من خلال منظور المذاهب الأخلاقية المختلفة كما جاءت في موازين العدل الإلهي وكما تداولها الفلاسفة عبر التاريخ.
وصف المعضلة الأخلاقية:
تثير مسألة طاعة الحاكم في الفكر الإسلامي إشكالية أخلاقية نابعة من التعارض بين المبدأ الديني الجوهري الداعي إلى إقامة العدل ومقاومة الظلم، وبين بعض التفسيرات الفقهية التي توجب الطاعة حتى للحكام الجائرين. يعتمد هذا المنحى التقليدي على اعتبارات حفظ النظام ودرء الفتنة، غير أنه يتناقض مع المقاصد الأساسية للشريعة التي تجعل العدل ركيزةً أساسية للحكم الرشيد، ويُثار هنا إشكال منهجي حول مدى شرعية هذه التأويلات خاصة في ظل الترابط التاريخي بين بعض الخطابات الدينية والسلطة السياسية.
من المنظور الأخلاقي، فإن الإصرار على الطاعة المطلقة ينطوي على تناقض صارخ مع النصوص القرآنية الصريحة التي تحرم الظلم وتأمر بالقسط، كما يحوّل هذا الموقف الدين من مرجعية نقدية إلى أداة لتبرير الواقع، مما يفقده دوره التوجيهي في الإصلاح والعدالة الاجتماعية، ومن ناحية أخرى أن النظام السوري الحالي بقيادة “الجولاني” نظام إرهابي، وبالتالي فإن طاعته أو الاعتراف بشرعيته يشكل انتهاكاً لأخلاقيات العدالة، والحرية التي تدعو إليها الأديان نفسها هذا الموقف يستند إلى مبادئ “العدالة، والكرامة الإنسانية” كقيم أخلاقية أساسية هنا نجد أنفسنا أمام صراع بين قيم أخلاقية متضاربة.
رأي السوريين في حكومة الأمر الواقع بسوريا ومبرراتهم:
يؤيد غالبية السوريين موقف رفض النظام الحالي في سوريا، وذلك للأسباب التالية.
۩ أولاً: من المنظور الأخلاقي العقلاني، فإن أي نظام يقوم على القمع والقتل والتدمير الممنهج لشعبه يفقد شرعيته الأخلاقية والسياسية كما يشير. (عبد الجبار، 2017 ص 66). في كتابه “الفلسفة لمن يريد”، فإن الأخلاق العقلية تقوم على أساس “إن الإنسان كائن عاقل بالدرجة الأولى، وأن عقله ليس أداة للفهم والمعرفة فقط، بل هو أيضاً مبدأ الفضيلة ومصدر الفعل الأخلاقي“ وبالتالي، فإن العقل يحكم بعدم شرعية أي نظام يمارس العنف ضد شعبه.
۩ ثانياً: من المنظور الديني، فإن الإسلام كدين يدعو إلى العدل، والقسط، ويحرم الظلم، كما قال تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوٓاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}. (سورة هود، الآية 113 ص 234).
إذاً، فإن الصمت على الظلم أو التعاون مع الظالمين هو في حد ذاته ظلم هذا الموقف يتوافق مع ما ذكره. (رابوبرت وأمين، 2017 ص 59). عن أن “علم الأخلاق يبحث فيما ينبغي أن يكون عليه الإنسان، وماذا ينبغي أن يعمل“، وما ينبغي أن يكون في هذه الحالة هو الوقوف ضد الظلم.
نقد الموقف الرافض:
يواجه هذا الموقف بعض الانتقادات:
& الانتقاد الأول: يمكن القول إن مقاومة النظام قد تؤدي إلى فوضى وعدم استقرار، وهو ما قد يسبب معاناة أكبر للشعب هذا الموقف يستند إلى المذهب الأخلاقي الحسي الذي يركز على النتائج والعواقب، حيث أن “كل قيمنا الأخلاقية تقاس وفقاً لما تحدثه فينا من أحاسيس سارة أو مزعجة“ بحسب. (عبد الجبار، 2017، ص. 65). وفقاً لهذا الرأي، فإن الاستقرار حتى لو كان تحت حكم ظالم، أفضل من الفوضى.
& الانتقاد الثاني: تتبنى بعض المذاهب الدينية تفسيراً حرفياً لنصوص الطاعة، فتُحرّم الخروج على الحاكم مطلقاً بغض النظر عن مدى عدالته أو ظلمه يستند هذا التوجه إلى ما يُعرف بالأخلاق الدينية التقليدية، التي تتعامل مع النصوص الفقهية خاصة تلك التي صاغها بعض العلماء تاريخياً في سياقات سياسية معينة كمصدر مطلق للأحكام الأخلاقية.
حيث قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى. “ مذهب أهل الحديث ترك الخروج بالقتال على الملوك البغاة” وقال أيضاً في منهاج السنة النبوية. ” أْمرونَ بِالصَّبرِ على جور الأَئمَّة وترك قِتالهِم، وإن كان قَد قاتَل في الفتْنة خلقٌ كثيرٌ مِنْ أَهل العلم والدينِ“ (مذهب أهل السنة والجماعة في الخروج على الحاكم الظالم، 2013).
الرد على الانتقادات
@ بالنسبة للانتقاد الأول: يمكن الرد بأن الاستقرار على حساب العدالة والكرامة الإنسانية هو استقرار زائف.
إن قبول الظلم خوفاً من الفوضى هو موقف لا أخلاقي في جوهره، لأنه يضحّي بالقيم الإنسانية الأساسية من أجل راحة مؤقتة كما يشير. (كرم وثابت، 2018 ص 280). فإن “الواجب أمر مطلق صادر عن إرادة خالصة“، والواجب الأخلاقي المطلق هنا هو مقاومة الظلم.
@ أما بالنسبة للانتقاد الثاني: فإنه يمكن الرد بأن النصوص الدينية يجب أن تفهم في سياقها الشمولي، وأن الإسلام جاء أساساً لمقاومة الظلم والطغيان.
إن تفسير النصوص في كتب بعض ما يُعرف بالعلماء الدين بشكل حرفي، دون مراعاة للمقاصد العامة للشريعة، يؤدي إلى تشويه الصورة الحقيقية للدين، هذا الموقف يتوافق مع الأخلاق العقلية التي “تقوم على أساس أن الإنسان كائن عاقل بالدرجة الأولى“ (عبد الجبار، 2017، ص. 66)، والعقل يحكم بوجوب مقاومة الظلم.
“إن قوات الحكومة الانتقالية في سوريا شنت حملات دهم وتصفية استمرت عدة أيام، استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة، وأُضرمت النيران في منازل السكان، وأُعدمت عائلات ميدانياً دون محاكمات أو اتهامات معلنة، وأشار ناشطون إلى أن بعض القرى مُحيت عن الخارطة، وأن الناجين هُجّروا قسراً من بيوتهم“. وفقاً لـ. (السوريون بين درسين.. ماذا تخبرنا الانتهاكات في الساحل والسويداء، 2025).
تحليل المعضلة من خلال النظريات الأخلاقية
من خلال تطبيق النظريات الأخلاقية على هذه المعضلة، يمكننا الوصول إلى الاستنتاجات التالية:
“كان زينو يرى أن المعرفة العلمية شرط أساسٍ للحياة الأخلاقية، ولذا فقد قسم فلسفته إلى أبحاث ثلاثة: المنطق والطبيعة والأخلاق، على أن يكون الأولان وسيلتَيْن تؤديان إلى الثالث، وهو الغاية المنشودة“. (ما هي الفلسفة الرواقية وكيف تأسّست، 2023).
ÿ منظور الأخلاق العقلية: كما طرحها زينون والرواقيون، ترى أن “الأخلاق هي أن يعيش الإنسان في وفاق مع الطبيعة“ (عبد الجبار، 2017، ص. 66). والطبيعة الإنسانية تتوق إلى الحرية والعدل، وبالتالي فإن مقاومة النظام الظالم هي انسجام مع الطبيعة الإنسانية.
ÿ منظور الأخلاق الكانطية: يؤكد كانط على مفهوم “الواجب المطلق” الذي لا يتعلق بالعواقب بل بالنية الخالصة للفعل، وفقاً لهذا المنظور، فإن مقاومة الظلم هي واجب أخلاقي مطلق، بغض النظر عن العواقب.
ÿ كما يقول كانط: “اعمل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي أي شخص آخر كغاية لا كوسيلة“ وفقاً لـ. (كرم وثابت، 2018، ص. 282). النظام الذي يقتل شعبه يعاملهم كوسائل لا كغايات.
ÿ منظور الأخلاق الدينية: بينما توجد نصوص لا أساس لها من الدين تدعو لطاعة الحكام، توجد نصوص أخرى أكثر دقة وصحة تدعو للعدل، ومقاومة الظلم الأخلاق الدينية الحقيقية يجب أن تقوم على المقاصد الكلية للشريعة التي تحرم الظلم وتدعو للعدل.
ÿ العدل الإلهي: يضع القرآن الكريم العدل ومقاومة الظلم في صميم الأخلاق الدينية الحقيقية، ويقدم نصوصًا قويةً تحث على ذلك وتوضح عواقب الظلم.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}، (سورة النساء، الآية 58 ص 87).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}، (سورة النساء، الآية 135 ص 100).
{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، (سورة المائدة، الآية 8 ص 108).
“يتباين مفهوم العدالة بين المنظور الشرعي والفقهي والفلسفي، حيث تتجلى هذه الاختلافات في الأسس والمقاربات التي يعتمدها كل تيار، ففي الإطار الشرعي، تُعَدُّ العدالة تجسيداً للاستقامة على الحق وانتصار العقل على الهوى، بينما يحصرها الفقهاء في الجانب العملي عبر مفهوم “ملكة العدالة” التي تعني اجتناب الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر مع الالتزام بالتقوى وترك المحرمات وفعل الواجبات، وأما في السياق الفلسفي، فقد انعكست رؤية فلاسفة القرون الوسطى من خلال تركيزهم على الطبيعة وتأثيرها، مما قادهم إلى اعتبار العدالة سلوكاً متوافقاً مع القوانين الطبيعية وحافظاً للحقوق الطبيعية“. (العدالة والتنمية الاجتماعية في القرآن، ب. ت).
ختاماً:
فإن المعضلة الأخلاقية لرفض النظام الحاكم في سوريا تظهر الصراع العميق بين القيم الأخلاقية المختلفة من خلال تحليل هذه المعضلة عبر عدسة النظريات الأخلاقية المختلفة، يتضح أن الموقف الأخلاقي السليم هو رفض النظام الظالم ومقاومته، لأن ذلك يتوافق مع القيم العليا للعدل والكرامة الإنسانية التي تدعو إليها كل الأديان والفلسفات الأخلاقية السامية. إن قبول الظلم خوفاً من الفوضى أو تفسيراً خاطئاً للنصوص الدينية هو موقف لا أخلاقي في جوهره الأخلاق الحقيقية تدعونا إلى الوقوف مع الحق والعدل، حتى لو كان الثمن باهظاً.
كما يقول كانط: “شيئان يملآن الوجدان بإعجاب وإجلال: السماء ذات النجوم فوق رأسي، والقانون الأخلاقي في نفسي“ (كرم وثابت، 2018، ص. 292)، وهذا القانون الأخلاقي يحتم علينا مقاومة الظلم والدفاع عن كرامة الإنسان.
عدد الكلمات:1444
المراجع
رابوبرت، أ. س. وأمين، أحمد. (2017). مبادئ الفلسفة دراسة لاهم الاتجاهات والمذاهب الفلسفية، (الطبعة الأولى). القاهرة، مصر: منشورات البندقة للنشر والتوزيع، تم الاسترجاع من الرابط التالي:
https://platform.almanhal.com/Reader/Book/118990
عبد الجبار، نبيل عبد الحميد. (2017). الفلسفة لمن يريد، عمان، الأردن: دار دجلة ناشرون وموزعون، تم الاسترجاع من الرابط التالي:
https://platform.almanhal.com/Reader/Book/2951
كرم، يوسف وثابت، محمد. (2018). تاريخ الفلسفة الحديثة من القرن الخامس عشر حتى بداية. (الطبعة الأولى). القاهرة، مصر: منشورات البندقة للنشر والتوزيع، تم الاسترجاع من الرابط التالي:
https://platform.almanhal.com/Reader/Book/118085
السوريون بين درسين.. ماذا تخبرنا الانتهاكات في الساحل والسويداء. (2025، يوليو 19). موقع وكالة أنباء هوار، تم الاسترجاع من الرابط التالي:
https://hawarnews.com/ar/125913
مذهب أهل السنة والجماعة في الخروج على الحاكم الظالم. (2013، سبتمبر 25). موقع إسلام ويب، تم الاسترجاع من الرابط التالي:
https://www.islamweb.net/ar/fatwa/221497/مذهب-أهل-السنة-والجماعة-في-الخروج-على-الحاكم-الظالم
العدالة والتنمية الاجتماعية في القرآن. (سنة النشر غير معروفة). موقع دار القرآن الكريم، تم الاسترجاع من الرابط التالي:
https://www.dar-alquran.org/articles/249
تعود إلى 300 عام قبل الميلاد وتنقسم إلى 3 فترات.. ما هي الفلسفة الرواقية وكيف تأسّست. (2023، مايو 11). موقع عربي بوست، تم الاسترجاع من الرابط التالي:
https://arabicpost.net/ثقافة/2023/05/11/الفلسفة-الرواقية
مجلس الأمن الدولي. (2014، مايو 14). AL-NUSRAH FRONT FOR THE PEOPLE OF THE LEVANT جبهة النصرة لأهل الشام، موقع الأمم المتحدة، تم الاسترجاع من الرابط التالي:
